السودان بين حمم الكيماوي وشباك العقوبات

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
يشهد المشهد السوداني تحولات متسارعة ومعقدة، تتقاطع فيها التطورات العسكرية على الأرض مع أبعاد دبلوماسية وقانونية دولية خطيرة. ففي الوقت الذي أعلن فيه الجيش السوداني مؤخرًا عن تحقيق تقدم ميداني بالسيطرة على مناطق حيوية في الخرطوم وأم درمان، جاء قرار الولايات المتحدة بفرض عقوبات على حكومة بورتسودان (التي يمثلها الجيش) بتهمة استخدام الأسلحة الكيميائية في عام 2024، ليضيف طبقة جديدة من التعقيد والضغط على هذا الصراع المدمر.
إن استخدام الأسلحة الكيميائية، كما اتهمت الولايات المتحدة، ليس مجرد اتهام عادي، بل هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني ويمثل جريمة حرب تُزعزع أركان السلم والأمن العالميين، وتضرب صميم حقوق الإنسان. فالقرار الأمريكي، الذي صدر في 24 أبريل 2025 وتبعته إجراءات قانونية صارمة بموجب (قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقضاء عليها لعام 1991)، يعكس جهداً استخباراتياً وقانونياً مكثفاً لتوثيق هذا الانتهاك. العقوبات، التي تشمل قيودًا على الصادرات الأمريكية وخطوط الائتمان الحكومية، هي وسيلة ضغط اقتصادية ودبلوماسية تهدف إلى محاسبة الفاعلين وإرسال رسالة ردع قوية ضد استخدام هذه الأسلحة المحظورة عالميًا، وهي رسالة تعزز المعايير الدولية ضد كل من يفكر في تجاوزها.
هذا الاتهام يضع أيضاً منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) أمام تحدٍ كبير، إذ ستواجه المنظمة، كجهة دولية معنية بتطبيق الاتفاقية، ضغوطًا لإجراء تحقيق مستقل وشفاف في المزاعم الأمريكية، ونتائج تحقيقها ستحمل وزنًا قانونيًا ودبلوماسيًا عالميًا.
وفي هذا السياق، يُثير توقيت هذه العقوبات تساؤلات حول الدوافع الكامنة. فبينما يمثل استكمال الإجراءات القانونية الأمريكية (التحقيق، قرار الكونغرس، فترة الإخطار) تفسيرًا منطقيًا لتأخر الإعلان، لا يمكن فصل هذا التوقيت عن السياق الأوسع للصراع. قد يُنظر إلى العقوبات كخطوة لزيادة الضغط على الجيش السوداني في لحظة حاسمة من الحرب بهدف دفعه نحو مسار تفاوضي جاد أو تعديل سلوكه العسكري على الأرض. كما أنها تعكس نفاد صبر المجتمع الدولي تجاه الصراع المستمر والانتهاكات المتزايدة التي طالت المدنيين والبنية التحتية، وقد تُفسر هذه الخطوة الأمريكية على أنها محاولة (لكسر الجمود) عبر فرض كلفة باهظة على أحد الأطراف، خاصة في ظل فشل شبه كامل لمسارات التفاوض والوساطة السابقة مثل محادثات جدة.
وعليه، ستكون لهذه العقوبات تداعيات عميقة على المشهد السوداني برمته. ستؤدي إلى تقويض الشرعية الدولية لحكومة بورتسودان بشكل كبير، مما يجعل من الصعب عليها حشد الدعم الخارجي أو الاندماج في المنظومة الدولية. كما ستُفاقم من الضغط الاقتصادي على السودان، الذي يعاني بالفعل من عقوبات سابقة وأزمة اقتصادية حادة، مما يزيد من صعوبة حصول الحكومة على التمويل اللازم لإدارة البلاد وتمويل مجهودها الحربي.
على الصعيد الدبلوماسي، ستجعل هذه العقوبات أي محاولة للاتحاد الأفريقي للاعتراف الرسمي بحكومة بورتسودان أمراً بالغ الصعوبة، خوفًا من تقويض مصداقية الاتحاد نفسه والتزامه بالقانون الدولي. أما بالنسبة لديناميكيات التفاوض، فمن شأن هذه العقوبات أن تؤثر على دوافع الأطراف المتصارعة، فقد يشعر الجيش السوداني بضغط أكبر للدخول في مفاوضات لرفع العقوبات، بينما قد تستغل قوات الدعم السريع هذا الاتهام لتقويض شرعية خصمها في أي حوار مستقبلي، على الرغم من سجلها الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، هذه العقوبات قد تفرض ضغوطاً وإحراجاً على الدول الإقليمية مثل مصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، التي تربطها علاقات قائمة بحكومة بورتسودان أو توفر لها دعماً بأشكال مختلفة. هذه الدول، التي لها مصالح استراتيجية متباينة في السودان، قد تجد نفسها أمام خيارات صعبة بين الحفاظ على علاقاتها مع واشنطن اوتجاهل العقوبات الأمريكية لخدمة مصالحها الخاصة. الأهم، هذا الضغط يضع المجتمع الدولي أمام تحدٍ إنساني معقد بينما تُعاقب القيادات، فإن تأثيرها غالبًا ما يمتد ليشمل الشعب في بلد يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مما يثير تساؤلات حول كيفية تحقيق العدالة دون مفاقمة معاناة المدنيين.
وفي المدى المتوسط، تشير هذه التطورات إلى أن المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بات يمتلك أوراق ضغط قوية لدفع نحو تسوية سياسية. من المرجح أن تتبع هذه العقوبات دعوات مكثفة للتفاوض، وقد يتكالب الضغط الدولي والدبلوماسي على الطرف الذي يتعنت في الحوار أو يرفض الانخراط بجدية في مسار الحل السياسي. ومثال لذلك، يمكننا أن نستذكر كيف أدت العقوبات الدولية المشددة والممتدة على إيران بسبب برنامجها النووي، بالإضافة إلى الضغوط الدبلوماسية، إلى دفعها في نهاية المطاف نحو طاولة المفاوضات التي أثمرت الاتفاق النووي في عام 2015. وبشكل مشابه، في حرب البوسنة والهرسك في التسعينيات، بعد سنوات من التعنت من بعض الأطراف الصربية وتجاهل الحلول السياسية، تصاعد التدخل الدولي ليبلغ ذروته في حملة جوية حاسمة من حلف الناتو، ما غير موازين القوى وأجبر الأطراف على التوقيع على اتفاقية دايتون للسلام، التي أرست الاستقرار في المنطقة.
وإذا لم ينجح مسار التفاوض في السودان، فليس مستبعداً أن تكون هذه الخطوة إشارة لإمكانية تدخل دولي ذي طبيعة مختلفة، ربما عبر دعمٍ غير مباشر لأحد الطرفين، أو تنسيق تحركات تهدف إلى ترجيح كفة تخدم الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل، في محاولة لإنهاء الصراع الذي يهدد أمن المنطقة بأسرها.
وفي الختام، يبقى مصير السودان معلقًا بين التطورات العسكرية المتغيرة والضغوط الدولية المتزايدة، في ظل أزمة إنسانية متفاقمة. تضع العقوبات الأخيرة الكرة في ملعب الحكومة السودانية، وتجبرها على الاختيار بين مواصلة نهج قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية، أو الانخراط بجدية في مسار سياسي يلبي تطلعات الشعب السوداني ويسهم في استعادة الاستقرار والشرعية.
المصدر: صحيفة الراكوبة