د. أحمد التيجاني سيد أحمد
١. من الماضي إلى الحاضر: مؤامرة مستمرة
منذ مطلع السبعينات، حين وصلت شركة سيبا قايغي السويسرية إلى السودان لإعداد مشروع متكامل لتطوير الثروة الحيوانية والطرق والمطارات والقرى والمصانع بين جنوب الدندر والروصيرص، كان السودان يقف على أعتاب نقلة تنموية واعدة تضاهي ما حققته كوريا الجنوبية أو جنوب أفريقيا لاحقًا. وقد كنتُ آنذاك مرافقًا للفريق السويسري وممثلًا للحكومة السودانية في إعداد ذلك المشروع، فرأيتُ بأم عيني كيف تهيأت المنطقة لميلاد اقتصاد ريفي حديث.
لكن فجأة ظهر بنك فيصل الإسلامي وعرّابه الدكتور علي عبد الله يعقوب، حاملًا مشروعًا مغايرًا: لم يكن مشروعًا للتنمية، بل مشروعًا للهيمنة الأيديولوجية الإسلامية العروبية. وبإيعاز من الحركة الإسلامية أُلغيت الخطة السويسرية بلا بديل، فضاعت على السودان فرصة تاريخية، وبدأ مسلسل طويل من التغوّل الأيديولوجي على حساب التنمية والهوية الوطنية.
هذه المؤامرة لم تكن حدثًا عابرًا، بل حلقة في سلسلة بدأت مع “دولة ٥٦”، واستمرت عبر الانقلابات العسكرية التي تبنتها النخبة الإسلامية العروبية، إلى أن قادت لانفصال الجنوب في ٢٠١١، ثم انفجار دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وصولًا إلى الحرب الحالية.
٢. المشهد الراهن: السودان على حافة الفناء
اليوم، ونحن في أغسطس ٢٠٢٥، يقف السودان عند مفترق طرق مصيري:
الوضع في الفاشر يختلف عن النهود. ففي النهود كانت الفرقة العسكرية الانقلابية متمركزة خارج المدينة، مما أبقى المدنيين أقل تعرضًا للحصار المباشر. أما في الفاشر فالفرقة محاصَرة داخل المدينة نفسها، تستخدم المدنيين كدروع بشرية و تعرضهمً لنقص الغذاء، وشبح المجاعة
قوات تحالف التأسيس، رغم المخاطر، نجحت في فتح منافذ آمنة للمدنيين. فقد خرج من الفاشر حتى الآن أكثر من ٥٠٠ ألف شخص، وهم الآن موزَّعون على مدن أكثر أمنًا داخل الولاية مثل طويلة، شنقل طوبايه، وخزان جديد، وغيرها من المناطق الأخرى. أغلبهم من النساء والأطفال،وينتظرون وصول الإعانات لتأمين احتياجاتهم الأساسية.
أزمة النزوح تتفاقم لتصبح الأكبر في أفريقيا اليوم. تجاوز عدد النازحين داخليًا ٨٫٨ مليون، وأكثر من ٣ ملايين عبروا الحدود.
المنظومة الصحية منهارة. الكوليرا تنتشر في دارفور والنيل الأزرق، والمستشفيات عاجزة.
شلل اقتصادي خانق. قوانين التمكين مثل قانون الاستثمار ٢٠١٣ تمنح الرئيس سلطة مطلقة لتأجير الأراضي للمستثمر الأجنبي خلال أسبوع واحد دون استشارة الولايات.
الحدود الشرقية والشمالية ورقة ضغط مصرية. القاهرة ما زالت تنظر إلى السودان كـ “حديقة خلفية”، وسط شائعات غير مؤكدة رسميًا عن تنازلات في ملف حلايب وشلاتين.
جدول: المدن الرئيسية التي استقبلت النازحين من الفاشر
استقبلت آلاف النازحين ينتظرون الإعانات |
|
استقبلت موجات كبيرة ينتظرون الإعانات |
|
تجمع للنازحين ينتظرون الإعانات |
|
مدن أخرى بالولاية |
انتشار متفرق بانتظار الإعانات |
٣. نافذة دولية غير مسبوقة
في ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ أصدر مجلس الأمن الدولي بيانًا واضحًا برفض “السلطة الموازية” التي أعلنها الدعم السريع، مؤكّدًا على وحدة السودان وسيادته. لكنه في الوقت نفسه لم يعترف بانقلاب البرهان ولم يمنحه أي غطاء سياسي، كما سبق لمجلس السلم والأمن الأفريقي أن رفض الاعتراف بالسلطتين العسكريتين المتصارعتين.
هذا الموقف المزدوج رفض “السلطة الموازية” وعدم الاعتراف بالانقلاب خلق لحظة سياسية وقانونية نادرة: لأول مرة منذ سنوات الحرب، ينفتح الباب أمام القوى المدنية السودانية لتقديم نفسها كالعنوان الوحيد المقبول دوليًا لإدارة المرحلة الانتقالية وبناء الدولة المدنية الفدرالية.
٤. متى نحرر السودان ونوحده؟
الجواب المباشر: من الآن وحتى نهاية أكتوبر ٢٠٢٥ هي النافذة الأنسب لإعلان حكومة وحدة التأسيس.
لماذا؟
١. لأن الغطاء الدولي متاح: مجلس الأمن أغلق باب “السلطات الموازية”، وهذا سند قانوني.
٢. لأن الضغط الإنساني في ذروته: المجاعة والحصار يضعان العالم أمام مسؤولياته، وأي عنوان مدني موحد سيكون جاذبًا للدعم.
٣. لأن القوى العسكرية منهكة: لا الجيش قادر على الحسم، ولا الدعم السريع قادر على الاستقرار، ما يفتح ثغرة للحل المدني.
٤. لأن المجتمع السوداني وخاصة الشباب لم يعد يقبل بأي حكم عسكري أو وصاية إيديولوجية، ويرفع شعار: مدنية، فدرالية، حرية، وحدة.
٥. المصاعب التي تواجه حكومة وحدة التأسيس
الطريق ليس مفروشًا بالورود، وهذه أبرز العقبات:
الكارثة الإنسانية : ستُختبر الحكومة بقدرتها على فتح ممرات إنسانية للفاشر ودارفور.
تفتت القوى المدنية: المطلوب إطار مصغّر (سلام، صحة، غذاء، اقتصاد) يوحّد الجميع تحت عنوان واحد.
الإملاءات الإقليمية: القاهرة وأنقرة والدوحةً ستسعى لفرض انتقال يخدم مصالحها لا مصالح السودانيين.
التمكين الاقتصادي: لا بد من تجميد قانون ٢٠١٣ فورًا ومراجعة عقود الأرض والمياه.
الحرب الإعلامية: تحتاج حكومة التأسيس إلى غرفة إعلام حقائق (FactCheck) ترد بسرعة وبشفافية على الشائعات مثل ملف حلايب/شلاتين.
٦. كيف نبدأ خلال ٩٠ يومًا؟
١. إعلان ميثاق مبادئ انتقالية: وحدة السودان مدنية فدرالية لا سلطة موازية لا تنازل ترابي أولوية الإغاثة.
٢. تشكيل حكومة مهمّة مصغّرة: وزارات محدودة + لجنة سيادة قانونية لإصدار مذكّرتين (حلايب/شلاتين، مراجعة قانون الاستثمار).
٣. إنشاء غرفة عمليات إنسانية للفاشر بالشراكة مع الأمم المتحدة.
٤. خطاب دبلوماسي متوازن تجاه مصر: شراكة ندّية، لا تبعية ولا “حديقة خلفية”.
٥. نشر ورقة مرجعية عن مشروع سيبا قايغي كرمز للفرص التي ضيّعها التمكين، وتحويلها إلى خطة تنمية ريفية بديلة.
٧. خاتمة: من يملك الإجابة؟
السؤال: هل لدى شعب السودان خيار غير حكومة مدنية فدرالية ديمقراطية؟
الجواب: لا.
هل لدى القوى الحيّة بديل غير طريق التأسيس لإنقاذ الوطن؟
الجواب: لا.
لقد جُرّبت الانقلابات العسكرية سبعين عامًا، والنتيجة كانت الخراب والانقسام. آن الأوان لثورة الشباب أن تقتلع حكم الكيزان والإسلام السياسي العروبي، وأن تعيد السودان إلى أهله إلى الأطراف لا المركز، إلى المستقبل لا الماضي.
المصدر: صحيفة الراكوبة