السودان بين الثكنة والمنبر قراءة في بنية الصراع لا مراحله


زهير عثمان حمد
من يراقب المشهد السوداني الراهن بعد أكثر من ثلاثة اعوام على تفجّر الحرب الشاملة، يدرك أن ما يجري ليس مجرد فشل سياسي عابر أو صراع نفوذ بين مركزين للسلطة، بل هو تعبير عن أزمة بنيوية عميقة تشكّلت عبر عقود تتقاطع فيها الدولة المأسورة بجهازها العسكري، مع مشروع أيديولوجي استنزف المجال العام، وحوّل مفهوم الدولة من فضاء للمواطنة إلى ساحة لتصفية الهويات المتصارعة.لقد أسس انقلاب 30 يونيو 1989م نقطة الانعطاف الحاسمة التي غيّرت بنية الدولة السودانية. فمنذ ذلك التاريخ، لم يعد الجيش جهازًا سياديًا محايدًا، بل تحوّل إلى رافعة أيديولوجية لحكم شمولي، تبنّى خطاب “التمكين” وأعاد هندسة البنية المؤسسية لتخدم جماعة بعينها لا الشعب. وهكذا نشأت ثنائية الثكنة والمنبر، حيث اندمج العسكري بالمقدّس، وتحولت العقيدة القتالية إلى أداة في مشروع إسلاموي لا يؤمن بالدولة الوطنية، بل بـ”الخلافة المؤجلة”.هذا التحالف البنيوي أنتج ما يمكن تسميته بـ”الدولة الحارسة للجماعة”، دولة غير شرعية أخلاقيًا لأنها لا تقوم على العقد الاجتماعي، بل على عقد القوة والولاء. وبذلك، أُفرغت مفاهيم مثل السيادة، والمواطنة، والمشروعية، من مضامينها الحديثة لتحل محلها شرعيات هجينة: شرعية البندقية، وشرعية العقيدة، وشرعية “الاستثناء”.مع ثورة ديسمبر المجيدة، كان هناك أمل في إعادة تعريف الدولة السودانية على أسس ديمقراطية، ولكن لم يكن ممكنًا تحقيق انتقال حقيقي طالما ظل الجيش مُخترقًا أيديولوجيًا، ومُرتبطًا بشبكات مصالح اقتصادية وعقائدية مرتبطة بالحركة الإسلامية. هذا ما جعل كل مشروع مدني هشًا أمام تماسك تحالف الثكنة والمنبر، وأدى إلى الانقلاب على الانتقال الديمقراطي في أكتوبر 2021م، ثم الانفجار الكارثي في أبريل 2023.إن ما نشهده اليوم من قصف للمدن، وانهيار للبنى التحتية، وتدمير للمنشآت الحيوية، خصوصًا في بورتسودان، ليس مجرد تطور عسكري، بل هو تكثيف درامي لفشل الدولة السودانية في التحرر من بنيتها المأسورة. غياب العقيدة الوطنية داخل الجيش، واستمرار الاشتغال بخطابات “الطُهر الأيديولوجي”، و”الاستثناء السيادي”، جعل من الحرب وسيلة لإعادة تعريف السودان وفقًا لمفاهيم القوة العارية، لا السياسة التعاقدية.لقد أصبح واضحًا أن سلطة بورتسودان ـ التي تسوّق الحرب كحرب تحرير وطني ـ لا تملك الشرعية الديمقراطية ولا الرؤية التأسيسية، بل هي امتداد لصيغة قديمة تنهار أمام أعيننا: صيغة الهيمنة باسم الدين، والحكم باسم الجيش.وفي هذا السياق، فإن فك الارتباط العضوي بين الجيش والإسلامويين ليس مجرد إصلاح مؤسسي، بل هو تحوّل بنيوي لا بد منه لتأسيس دولة حديثة. يتطلب ذلك إعادة هيكلة الجيش عقيدة وتنظيمًا، تجريده من الامتيازات السياسية والاقتصادية وتحت إشراف سلطة مدنية شرعية، وليس وفق توازنات ما بعد الحرب، التي لا تولّد سوى إعادة تدوير القمع بثوب جديد. كما أن الخروج من المأزق لا يمر عبر تسويات فوقية أو توزيع الغنائم بين أطراف الصراع، بل من خلال مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار للمواطنة كمصدر وحيد للشرعية، ويؤسس لمسار عدالة انتقالية لا يعرف المساومات على دماء الضحايا.في هذا الإطار، فإن الرهان على “الحسم العسكري” أو “المعركة الأخيرة” ليس سوى استنساخ للفكر السلطوي الذي أورد السودان المهالك. وحدها المقاربة السياسية الأخلاقية، التي ترى في الإنسان لا في الجماعة، وفي العقد لا في القوة، الطريق إلى الخلاص. على امتداد سنوات ما بعد الثورة السودانية، ظل شعار “لا للحرب” يُرفع كمانفستو أخلاقي في مواجهة عسكرة الحياة العامة. هذا الشعار، المنحدر من إرث طويل من مقاومة الانقلابات والحروب الداخلية، أخذ مكانه بوصفه تعبيرًا عن موقف مبدئي يتجاوز الاصطفاف السياسي. لكنه اليوم، في خضم الحرب الشاملة التي فتكت بجسد الدولة السودانية ومجتمعها، يبدو وكأنه يُستنفد دلاليًا. فالسؤال لم يعد فقط : “هل نرفض الحرب؟”، بل : “كيف نبني سلامًا حقيقيًا في ظل بنيات إنتاج الحرب؟”هذا التحول من الرفض الأخلاقي إلى البحث عن أدوات الخروج من الحرب يستدعي مساءلة أعمق لمفرداتنا السياسية. فـ”لا للحرب”، إذا لم تُرفد برؤية استراتيجية تعي تعقيد البنية العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تُنتج الحرب، تظل مجرد احتجاج رمزي. نحن نعيش في دولة لم تُبْنَ بعد، بل في فضاء جيوسياسي هش، تُسَيّره شبكات مصالح إقليمية ومحلية، وتتنازعه روايات متضاربة للهوية والسلطة.في هذا السياق، فإن مجرّد رفض الحرب دون مواجهة الأسباب الجذرية لاستمرارها مثل تفكيك الاقتصاد الريعي العسكري، وإعادة تعريف العلاقة بين المركز والأقاليم، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وسؤال العدالة في توزيع السلطة والثروة يجعل من الشعار فعل عزلة، لا مدخلًا للفعل السياسي.من هنا، تتطلب الإجابة على الحرب ليس فقط توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، بل تأسيس تصور جديد للدولة السودانية: دولة لا تقوم على الغلبة أو المحاصصة، بل على العقد الاجتماعي، والمواطنة المتساوية، وسيادة القانون. وهذا يتطلب قطيعة معرفية وأخلاقية مع سرديات “المنقذ العسكري” و”المشروع الخلاصي”، لصالح وعي تاريخي يرى أن أزمات السودان ليست طارئة، بل هيكلية ومتجذرة في بنية الدولة نفسها منذ الاستقلال. في هذا الإطار، فإن الرهان على “الحسم العسكري” أو “المعركة الأخيرة” ليس سوى استنساخ للفكر السلطوي الذي أورد السودان المهالك. وحدها المقاربة السياسية الأخلاقية، التي ترى في الإنسان لا في الجماعة، وفي العقد لا في القوة، الطريق إلى الخلاص. لكن هذا الطريق لا يمكن أن يُعبد دون دور واضح وفاعل للقوى المدنية، تلك التي رفعت شعارات الثورة وواجهت أنظمة الاستبداد، لكنها تجد نفسها اليوم أمام امتحان عسير : إما أن تتحول إلى مجرد متفرج أخلاقي على الحرب أو أن تُعيد تنظيم صفوفها في الداخل والخارج، لتقدم مشروعًا مدنيًا متماسكًا لا يقوم على المصالح الضيقة أو التنافس الفصائلي، بل على رؤية استراتيجية للدولة ما بعد الحرب.لقد عانت هذه القوى من التشتت والاختراق، ومن العجز عن إنتاج قيادة موحدة قادرة على مخاطبة الشعب بلغة جديدة تتجاوز خطاب “الثورة المجيدة” إلى خطاب العقد الاجتماعي الجديد. غير أن الفرصة ما تزال قائمة، لا بل مُلحة، لأن غياب القوى المدنية عن مشهد ما بعد الحرب سيعني ببساطة أن السودان سيُعاد تشكيله بمنطق البندقية، لا بمنطق السياسة.
لذلك فإن الشرط الأول لإنقاذ السودان من دوامة التوحش، هو أن تستعيد هذه القوى موقعها كحامل تاريخي لمشروع الدولة الديمقراطية، لا كمعلق دائم على هامش الصراع.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة