السودان الممزق : صراعات في الظلال .. هل يلتئم الجرح ..!!؟؟

د. عثمان الوجيه
منذ منتصف أبريل من العام قبل الماضي، والسودان يئن تحت وطأة حرب ضروس، جيشه النظامي يقاتل مليشيا الدعم السريع المتمردة، لكن بينما تتصاعد ألسنة اللهب في ساحات القتال المعلنة، كانت نيران أخرى تتأجج في الخفاء، تنذر بتصدعات عميقة داخل صفوف الجيش السوداني نفسه والميليشيات المتحالفة معه، هل بدأت الحرب تأكل أبناءها؟ ففي دهاليز القيادة العسكرية، وفي غرف مظلمة بعيدة عن ضجيج المعارك، كان صراع خفي على النفوذ والسلطة يحتدم بين أجنحة وقيادات الجيش، لم يكن الأمر مجرد خلافات في وجهات النظر، بل تحول إلى سلسلة من الاغتيالات وحالات الانتقام المروعة، ترسم صورة قاتمة لشرخ عميق ينخر جسد المؤسسة العسكرية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، فمن يطفئ نور الاستخبارات المضادة؟ الاثنين الماضي، تسرب نبأ مروع من مدينة بورتسودان الهادئة نسبيًا : العميد محمد آدم، مدير الاستخبارات المضادة في الجيش السوداني، وجد مقتولًا داخل مقر إقامته، صمت مطبق خيم على الحادثة، وتكتم شديد فرضه الجيش، محاولًا طمس الحقيقة وتقديم رواية زائفة تزعم أن مقتله كان في ميدان القتال، لكن المصادر المطلعة كشفت المستور : العميد آدم، الذي لم يمضِ على تعيينه خلفًا للعميد عبد النبي المتهم بالفساد والتجاوزات وقتًا طويلًا، ربما يكون ضحية صراع محموم على المصالح والنفوذ داخل أروقة الاستخبارات العسكرية، فهل هناك يد ملطخة بالدماء خلف الستار؟ الأصابع تشير بقوة نحو العميد عبدالنبي نفسه، الذي قد يكون متورطًا بشكل مباشر في تصفية خلفه، في دلالة واضحة على مدى تغلغل الصراع في الأجهزة الأمنية الحساسة للدولة، لم تكن حادثة العميد آدم الأولى؛ ففي الأشهر القليلة الماضية، سُجلت عدة حوادث اغتيال غامضة طالت ضباطًا كبارًا في الجيش السوداني، ففي سبتمبر الماضي، قُتل العميد ركن عبدالناصر محمد عثمان، قائد مصنع الذخيرة، وسط روايات متضاربة حول كيفية وفاته، هل كان هدفًا لقصف خارجي أم ضحية لتصفية داخلية؟ وفي أكتوبر الماضي، لقي اللواء الركن أيوب عبد القادر، قائد سلاح المدرعات، مصرعه، وتحدثت مصادر عن احتمال تصفيته أيضًا، رغم الزعم الرسمي بسقوط قذيفة، وبالمثل، وُجد العميد عمر النعمان، مسؤول العمليات في جهاز المخابرات، قتيلًا في ظروف مشابهة، وفي فبراير من العام الجاري، اعتقلت الاستخبارات العسكرية ثلاثة ضباط بتهمة التخطيط لاغتيال مساعد قائد الجيش، ياسر العطا، في مؤشر خطير على تصاعد الخلافات التي باتت تهدد حياة كبار القادة، أهي وحدة زائفة .. وتمزق داخلي حقا؟ فعلى الرغم من أن الصورة الظاهرية توحي بأن قوات البرهان تقاتل كجبهة موحدة ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة، فإن الواقع الداخلي يكشف عن انقسام أيديولوجي عميق، تيارات إسلامية متشددة تتبع للكيزان، يُطلق عليها محليًا “البراؤون”، تتصارع مع قوى علمانية وقومية على النفوذ والسيطرة داخل الجيش، كل ذلك في غياب مشروع سياسي أو عسكري موحد، فمن يحرك الخيوط من الخلف؟ تُتهم الحركة الإسلامية، بقيادة شخصيات نافذة مثل علي كرتي، بالسيطرة على مراكز القرار الحساسة في الجيش، وتوجيه العمليات العسكرية من خارج التسلسل القيادي الرسمي، والتسريبات الصوتية المتداولة لتوجيهات عسكرية صادرة من كتائب البراء الجناح العسكري المرتبط بالإسلاميين دون تنسيق مع القيادة العامة، خير دليل على هذا الاختلال الخطير، هل فقد الجيش بوصلته؟ فقد فضحت تسريبات صوتية أخرى، انتشرت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، حجم التدهور التنظيمي الذي يعانيه الجيش السوداني، تعدد مراكز القرار، تمرد بعض الضباط على التعليمات، خاصة في مناطق أم درمان وشندي، وسيطرة كاملة لكتائب البراء على الهجمات الجوية، وتهميش الضباط النظاميين في التخطيط الميداني، كلها مؤشرات تنذر بانهيار هيكلي للمؤسسة العسكرية، فمن يعرقل السلام؟ تُوجه اتهامات صريحة لعناصر النظام السابق بعرقلة أي تسوية سياسية ممكنة، وتخريب جهود السلام، بما في ذلك محادثات جدة المتعثرة، هذه العناصر، كما صرحت قوى الحرية والتغيير، أنها تسعى جاهدة للعودة إلى المشهد السياسي عبر بوابة الجيش، مستغلة الحرب الدائرة كذريعة لإعادة تمكين نفوذها، ولكن!! كتائب البراء.. دولة داخل الدولة؟ فكتائب البراء، بقيادة المصباح أبو زيد، تجسد بوضوح هذه المحاولات، تشير التقارير إلى أنها باتت تتخذ قرارات منفردة، وتُدير مسيرات هجومية دون علم قيادة الجيش، في تجاوز سافر للتسلسل الهرمي العسكري، مما يثير تساؤلات حول مدى سيطرة القيادة الرسمية على قواتها، فإلى متى يستمر النزيف؟ يبقى السودان يئن تحت وطأة حرب مدمرة منذ الخامس عشر من أبريل 2023م، حرب بين الجيش النظامي وميليشيا الدعم السريع المتمردة، حرب شردت الملايين، وقتلت الآلاف، وقضت على الأخضر واليابس، وفي خضم هذه المأساة، يبدو أن الجيش السوداني، الذي يقاتل لاستعادة سيادة الدولة، يواجه خطر التفكك من الداخل، صحيح أن الأيام الأخيرة شهدت تصعيدًا من قبل الجيش في محاولة لدحر الميليشيا من العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، مكبدًا إياها خسائر فادحة أجبرتها على التراجع، لكن يبقى السؤال: هل يستطيع الجيش السوداني، المثقل بالجراح الداخلية، أن يحقق النصر على عدوه الخارجي؟ وهل ستلتئم تلك الصدوع العميقة التي تهدد وحدته وبنيانه؟ أم أن السودان سيظل أسيرًا لصراعات متعددة الأوجه، تمزقه من الداخل والخارج؟ الإجابة لا تزال معلقة في سماء الخرطوم الدامية.. هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي:بصفتي شاهداً على تقلبات وطني السودان، أجدني مدفوعاً اليوم لأقص عليكم حكايتي مع هذه الأرض المضطربة، حكاية بدأت فصولها مع بزوغ فجر الأمل عقب ثورة أبريل المجيدة، في الحادي عشر من أبريل عام ألفين وتسعة عشر، حين سقط صرح الطغيان المتمثل في عمر البشير وحزبه المتنفذ المؤتمر الوطني وحركتهم ذات الأيديولوجية الصلبة الحركة الإسلامية، شعرتُ حينها بنشوة الانتصار تغمر روحي، لكن، وسط فرحة التغيير، كان قلبي ينبض بقلق دفين، وعيني ترمقان المستقبل بتحذر، منذ تلك اللحظة الفارقة، جف مداد قلمي وأنا أرفع صوتي محذراً، مطالباً بإبعاد تلك المليشيا المتمردة التي عُرفت بقوات الدعم السريع عن مسرح الأحداث في بلادي، كنت أرى في وجودها خطراً داهماً، وسيفاً مسلطاً على رقاب الأمن والاستقرار، لم أتوقف عن المناداة بنزع سلاحها بالكامل، مؤكداً على ضرورة احتكار الجيش السوداني وحده لسلطة حمل السلاح، فهو الحامي الشرعي للوطن والمواطنين، واستحضرت في ذهني تجارب الماضي المريرة، تمرّد الحركات المسلحة في غرب وشرق السودان، وكيف عجزت الحكومات المتعاقبة عن تجريدها من سلاحها، لتجد نفسها مضطرة في نهاية المطاف إلى دمجهم في القوات المسلحة برتب مختلفة، في خطوة لم تزد الطين إلا بلة، وظل هذا الهاجس يلاحقني، هذا الخطر الكامن الذي يتربص بوطني، وكم كانت مخاوفي في محلها! ففي الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين المشؤوم، انفجر البركان الذي طالما حذرت منه، اندلعت حرب ضروس بين الجيش السوداني وتلك المليشيا المتمردة، حرباً لم تبق ولم تذر، شردت الملايين من ديارهم الآمنة، وأزهقت أرواح الآلاف من الأبرياء، وقضت على كل مظاهر الحياة والرخاء في سوداننا الحبيب، في خضم هذه الفوضى العارمة، وجد الجيش السوداني نفسه مضطراً لتسليح واستنفار جموع المتطوعين والمجاهدين، ليدافعوا عن أرضهم وعرضهم، تم تدريبهم على عجل، ومُدوا بأسلحة متنوعة، في محاولة يائسة لصد العدوان واستعادة الأمن، وها نحن اليوم، نسعى جاهدين لتطهير أرضنا من دنس هذه المليشيا المتمردة، ولكن، يبقى في قلبي غصة مريرة، فالسلاح الذي انتشر في أيدي المواطنين خلال هذه الحرب سيظل قنبلة موقوتة تهدد مستقبلنا، وما الفوضى التي أحدثتها كتيبة البراء بن مالك، تلك الفئة الموالية للنظام البائد، إلا دليل قاطع على خطورة انتشار السلاح خارج إطار الدولة، إنني أشاهد بألم وحسرة مستقبل وطني السودان وهو يتأرجح بين الأمل في النصر والخشية من فوضى السلاح، يبقى الأمل معقوداً على استعادة الدولة لسلطتها الكاملة، ونزع السلاح من كل من لا يحمله باسم القانون، لعلنا نستطيع أن نبني سوداناً آمناً ومستقراً لأجيالنا القادمة .
I watch with pain and regret the future of my country, Sudan, as it swings between hope for victory and fear of the chaos of weapons. Hope remains pinned on the state regaining its full authority and disarming all those who do not carry weapons in the name of the law. Perhaps we can build a safe and stable Sudan for our future generations
وعلى قول جدتي: “دقي يا مزيكا !!”.
خروج: “صرخة الحق في وجه العبث: هل تنتصر حرية الصحافة؟ صوت أمريكا نموذج !!” ففي أول من أمس، يوم الجمعة المشهود، سطع نور العدالة في أروقة المحاكم الأمريكية، ليوقف عبثًا كاد أن يطيح بصرح عريق، صرح خدمة الأخبار الدولية الممولة من الحكومة الأمريكية، التي ظلت على مدى ثمانية عقود تنقل نبض العالم بصدق وأمانة، لقد تجرأت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على محاولة تفكيك هذا المنبر الإعلامي الحر، في خطوة وصفها القاضي الاتحادي جيمس بول أوتكين بـ “حالة كلاسيكية من اتخاذ القرارات التعسفية والعبثية”، أهكذا تُكافأ عين الحقيقة؟ لقد سعى هؤلاء القوم إلى إسكات أكثر من ألف ومائتي صحفي ومهندس وغيرهم من العاملين المخلصين، الذين جرى تهميشهم قبل أسابيع قليلة في أعقاب قرار بتقليص التمويل، يا له من جزاء يُقدم لمن أفنوا زهرة شبابهم في نقل الأخبار وتنوير الرأي العام! فهل ينجح سيف القانون في إيقاف التغول؟ لكن هيهات لهم! فقد تصدى لهم قاضٍ شجاع، هو جيمس بول أوتكين، وأصدر أمرًا تقييديًا مؤقتًا يمنع الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، التي تدير صوت أمريكا، من المضي قدمًا في مخططها الآثم، لقد منعها من أي محاولة جديدة لإنهاء عمل هؤلاء الكفاءات، أو تقليل أعدادهم، أو وضعهم في إجازة قسرية، سواء كانوا من الموظفين أو المتعاقدين، بل امتد حكمه ليحمي مكاتبهم من الإغلاق، وليؤمن عودة العاملين في الخارج إلى الولايات المتحدة، يا له من انتصار للكلمة الحرة! إن هذا القرار القضائي لهو بمثابة بلسم شافٍ على قلوبنا نحن الصحفيين، الذين نؤمن بأن حرية الصحافة هي حجر الزاوية في أي مجتمع ديمقراطي، إنه صرخة مدوية في وجه كل من تسول له نفسه تكميم الأفواه وتزييف الحقائق، إنه تأكيد على أن سلطة القانون قادرة على لجم جماح السلطة التنفيذية عندما تحيد عن جادة الصواب، أفلا يستحق هذا القرار الاحتفاء؟ بكل تأكيد! إن هذا الحكم القضائي ليس مجرد انتصار لمجموعة من الصحفيين والإعلاميين، بل هو انتصار لقيم الحرية والشفافية التي نسعى جاهدين للحفاظ عليها، إنه دليل قاطع على أن هناك قوى في هذا العالم لا تزال تؤمن بدور الإعلام الحر في كشف الحقائق ومحاسبة المسؤولين، فهل نستطيع أن نقول الآن بثقة: إن صوت الحقيقة سيظل مدويًا؟ نعم، بفضل هذا القرار الشجاع، نستطيع أن نتنفس الصعداء ونقول : إن محاولات إسكات صوت الحق قد باءت بالفشل، إن خدمة الأخبار الدولية ستظل منبرًا حرًا ينقل الأخبار بموضوعية ومهنية، وستظل عينًا ساهرة على قضايا العالم، هذا هو الانتصار الذي كنا ننتظره، انتصار للصحافة الحرة، انتصار للحق على الباطل، وانتصار للمؤسسات التي تسعى لنشر الوعي والمعرفة في كل بقاع الأرض، فليُسجل هذا اليوم في سجلات التاريخ يومًا انتصرت فيه الكلمة الحرة على قوى التعتيم والتضليل..
#أوقفوا الحرب
ولن أزيد،، والسلام ختام.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة