السودان الذي نحلم به.. خطوات صغيرة نحو غدٍ أفضل

عروة الصادق
في أرضٍ يُداوي فيها النيلُ جروحَ الأمس ويُعانق أحلامَ الرماد ويُلاطف الأملَ وسط عويل الألم، يترنح السودان اليوم على مفترقٍ تتصادم فيه صخور الحقيقة بحنين الغد، بلادٌ تتلوى تحت أنياب الحرب ومخالب الفاقة وسلاسل الشتات، لكنها في جوفها تحتضن بذورَ غدٍ تتوق إلى من يُحسن دفنها في تربة الصبر لتزهر، ليس السؤال “هل للسودان غد؟”، ذاك نداءٌ يتردد في صدري منذ فجر انقلاب أكتوبر ٢٠٢١م، يومَ شهدتُ في أزقة الخرطوم دماءَ الفتية تُراق كالماء وأحلامهم تُطمر تحت أنقاض الرصاص، بينما كنتُ أنا، ابن هذه الأرض المقدسة بدم أبنائها، أقف كالصخرة الصماء أمام زئير المدافع، أتساءل في صمتٍ يُمزق الروح “كيف ننسج ذلك الغد؟”، إنه تحدٍ ينبعث من خطواتٍ صغيرة، لكنها راسخة كجذور التبلدي في عمق فيافي كردفان، خطواتٌ نُحييها نحن، أبناء هذا الوطن المكلوم المُثقل بالجراح المُذهل في عِزّته وصموده.
نستهل دربنا بإيمانٍ يعانق السماء، إيمانٍ بإلهنا وأرضنا وإنسانيتنا وأنفسنا، ليس ذلك الوهم الزائف الذي يذوب مع أول عاصفةٍ فتنطلق ألسنتنا بالنحيب (البلد دي انتهت وما بتتصلح)، بل إيمانٌ أشدّ من صلابة جبل مرة، إيمانٌ بأن الخالق العادل لم يُسلّم عباده للظلم، ولم يغمض عينيه عن الطغاة بل يمهلهم إلى يومٍ تُزلزل فيه الأرض وتشهق القلوب وتمتد أياديهم في غيهم يتخبطون، إيمانٌ راسخٌ بأن السودان ليس مجرد ترابٍ تُشطره الفتن، بل هو حلمٌ شامخٌ يستحق أن نُضحي له لا أن نُمزقه بأيدينا، أن نرى في كل صبيٍ يتحدى النيل سباحةً عبقرياً كامناً، وفي كل أمٍ ترفع جرة الماء فوق هامتها رمزاً لعزةٍ لا تُطأ، هذا الإيمان هو الشعلة الأولى التي تُوقد فينا جذوة البناء، فما قام غدٌ على أطلال اليأس، بل على صخرة أملٍ ننحته بأظافرنا.
وحين تُشرق شمس الإيمان في أرواحنا، نكتشف أننا جيلٌ لا يلين، جيلٌ عَتيدٌ صلبٌ صادقٌ لا يهادن في قضيته التي تتلخص في ثالوثٍ مقدس (الحرية السلام العدالة)، آمالٌ تتدلى من جباهنا كالطلّ وستظل تُزينها ما دمنا أحياء، فالأمل وحده هو الريح التي تدفعنا للعمل، وإلا فالسكون والخنوع والركون إلى الظالمين هو اختيارٌ للموت على أنفاس الحياة.
ثم نُقبل على العمل بقوةٍ تُزلزل الأرض تحت أقدامنا، فالأحلام لا تُشبع بطوناً جائعةً ولا تُرد نازحاً إلى حِماه ولا تُسكت زئير عنفٍ يمزق أوصال الوطن، العمل هنا ليس هباءً يبعثره الريح بين يدي زيد أو عمرو، بل هو نسيجٌ محكمٌ ينطلق من تراب هذه الأرض التي نُقسم بحبها، فلنستفق من غفلتنا ولنُعيد التأمل في هذا الجنون الذي استبدّ بعقولنا وهذا الضلال الذي أنشأ جيلاً في خصامٍ لا ينتهي، حينها ستكون عودتنا يقيناً لحلم (حنبنيهو)، لوطنٍ انتزعناه من أنياب أشرس الدكتاتوريات، لنفتح الطريق أمام كل مكافحٍ شردته الحرب بعد أن سُلبت أدوات كده، إلى حقول القطن التي ذرفت عيون أهلها دموعاً حتى جفت بعد أن تجرعوا كأس التشريد والإذلال والتعذيب والقصف العشوائي، وإلى مسارات الرعي وأشجار الصمغ العربي التي نُفيت قبائلها تحت وابل الطيران، لنجعل من كل ذرة ترابٍ نبع رزقٍ يُعيد للسوداني عزته ليعود ذاك “الهدمو مترب وقلبو نضيف”، ولنزرع في أبنائنا علماً ينتشلهم من جحيم الجهل وخيام النزوح وأكواخ اللجوء وأسواق الاتجار إلى نور المعرفة، تتصورون مدرسةً تُنير كل قريةٍ نائية، وورشةً تُحيي كل مدينةٍ مُقفرة، هذه ليست أضغاث أحلام، بل خطىً حيةٌ إن بدأناها اليوم ستُورق غداً.
لكن لا غدَ مع غدرٍ يتربص، ولا غدَ بلا وحدةٍ تُضمد الجراح، ولا غدَ مع عسكرة العقول واستبداد الحياة، فالسودان ليس قبيلةً تُعلى ولا إقليماً يُفرد، إنه لوحةٌ من الألوان والنغمات والأحلام، من قمم النوبة إلى أمواج البحر الأحمر، ومن رمال دارفور إلى مراعي كسلا وجبيت، وحدتنا ليست شعاراً نُردده في المجامع والمنابر والكراريس المُسودة، بل فعلٌ ينبض كل يومٍ بحوارٍ نقيٍ بيننا، أن نُصغي لوجع الآخر قبل أن نُطلق عويلنا، أن نمد أكفنا لمن نختلف معه قبل أن نُعرض عنه، الوحدة هي القنطرة التي تُعبر بنا من ماضٍ مُشظى إلى غدٍ مُشرق.
ختاماً: لسنا بحاجةٍ لمزيدٍ من هدير البنادق وأكاذيب الحرب المُضللة، ولا لأبواقٍ تُطبل لها وتُزمر وتُفتي باسمها، بل نحتاج إلى صوتٍ يُجسد هذا الغد، صوتٌ لا يتلعثم ولا يرهب، يرتفع كالرعد ولا يخبو، يترنم كالنيل ولا ينقطع، صوتٌ يحمل في أعماقه عزم الشباب وثبات الشيوخ ودهاء التاريخ، أنتم، أيها القراء، وبالأخص أبناء جيلي (جيلي أنا)، لبنات ذلك الصوت، فما الذي يُقعدنا عن أن نكون نحن من يُعيد صياغة ملحمة السودان؟، لنجعل من كل فجرٍ خطوةً ولو صغيرةً نحو ذلك الحلم، فالغد ليس وعداً نترقبه، بل حقيقةٌ نُشيدها، هذا إن شئنا وإن أبينا وأدرنا ظهورنا لبعضنا، فسنحصد من شجرة الزقوم الموتَ والدمَ والدموعَ المريرة.
المصدر: صحيفة الراكوبة