السودان الجديد .. رؤية للتغيير وتحديات الصراع السياسي والبنيوي.!!
محمد عبدالله إبراهيم
طرحت الحركة الشعبية لتحرير السودان ، بقيادة مؤسسها الدكتور جون قرنق دي مبيور ، مشروع “السودان الجديد” في مايو 1983م ، كبرنامج فكري سياسي وفلسفي ، يهدف إلى إحداث تغيير جذري في هيكل الدولة السودانية ، وحيث ولد هذا المشروع في ظل سياق اجتماعي وسياسي وثقافي يرفض أي رؤى أو أفكار تنطلق من خارج أطر دائرة النخب التقليدية التي سيطرت على مركز السلطة منذ استقلال السودان ، وتجسدت هذه السيطرة في الهيمنة الطائفية والأيديولوجية والدينية على كافة مفاصل ومؤسسات الدولة ، إلى جانب الأنظمة العسكرية التي تحالفت مع النخب المدنية واستولت على الحكم عبر الانقلابات ، ما أسفر عن إنتاج أنظمة دكتاتورية متسلطة ضد بنات وابناء الشعب السوداني ، وكرست للفساد والاستبداد لعقود.
فشلت الأنظمة التي تعاقبت على مركز السلطة في الخرطوم في معالجة الأزمة السودانية المتفاقمة ، او بالأصح “تعمدت” التغاضي عن جوهر الأزمة السودانية للحفاظ على هيمنتها المطلقة على السلطة وعلى مقدرات الشعب والدولة السودانية ، إلى جانب ذلك ، عانت القوى السياسية والحركات المسلحة من انقسامات داخلية عميقة أضعفت جهودها النضالية ، وساهمت سياسات السلطة المركزية في الخرطوم ، في تعميق الانقسامات بين القوى السياسية والمسلحة ، حيث عززت التحديات والانقسامات عبر انتهاج سياسات تعسفية ساهمت في تقسيم وتشرذم القوى السياسية ، إضافة الى تفضيلها خيارات الحلول العسكرية بدلا عن خيارات التفاوض والحلول السلمية مع الحركات المسلحة وهيمنتة على كافة مؤسسات ومرافق الدولة ، خاصة العسكرية والمالية والإعلامية وتسخيرها ضد تلك الحركات لتشوية صورتها وإجهاض برامجها السياسية والفكرية ، عبر النفاق السياسي وتلفيق الأكاذيب لفرض هيمنتها الثقافية ، العربية والإسلامية ، في وقت كان ينعدم فيه وسائل إعلام مستقلة تتيح للشعب الاطلاع على الحقائق.
إلى جانب ذلك ، كانت معظم الحركات المسلحة المعارضة لسياسات المركز تفتقد للرؤى والمشاريع الفكرية والسياسية الحقيقية ، لا سيما ان مطالبها كانت لا تتجاوز “رفع الظلم والتهميش” بينما عملت بعضها إلى استغلال هذه القضايا لتحقيق مكاسب شخصية ، مثل المال والتمثيل التضليلي في مراكز السلطة بالخرطوم، وظل مركز السلطة ينتهج أسلوبًا ثابتًا يقوم على توقيع اتفاقيات لم تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة الحكم أو في ممارسات السلطة ، باستثناء اتفاقية السلام الشامل 2005م ، والتي أدت الى تعديل الدستور وإقرار حريات مدنية ، ومكاسب عديدة لجنوب السودان ، الا ان تماطل وتعنت نظام الإنقاذ وعدم رغبتها في تنفيذ بنود الاتفاقية ، دفع شعب جنوب السودان الى تفضيل خيار الانفصال ، واستقلال دولتهم في 2011م.
قدم الدكتور جون قرنق من خلال مشروع “السودان الجديد” رؤية تستند إلى قراءة عميقة للواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي السوداني ، وتشخيص دقيق للأزمة السياسية السودانية.، ركزت هذه الرؤية على غياب مشروع وطني شامل يسعى لبناء دولة ديمقراطية علمانية تقوم على الوحدة الطوعية والعدالة دون تهميش أو إقصاء “ثقافي ، سياسي أو التنموي”، وأثار مشروع السودان الجديد نقاشًا جادًا حول قضايا محورية مثل الهوية ، والدين والدولة ، ونمط الحكم ، حيث دعا إلى طرح السؤال الأساسي “كيف يُحكم السودان؟” بدلاً من الاكتفاء بالسؤال التقليدي “من يحكم السودان؟”.
واجهت الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ تأسيسها تحديات داخلية وخارجية كبيرة ، أبرزها الانقسامات والصراعات الداخلية أثرت بشكل كبير على مسارها ، وتمحورت حول اختلاف الأهداف والرؤى بين قادتها ، حيث انضم إليها مجموعات لم تكن رؤاهم واهدافهم متطابقة مع ورؤية وأهداف الحركة ، بل كانت تسعى لتحقيق اهداف ومصالح ضيقة ، مثل الحصول على السلاح لحماية مواردهم المحلية مثل “الماشية”، أو طرد المجموعات العربية السودانية ، وانفصال الجنوب ، وعام 1991م ، تفاقمت هذه الخلافات مما ادت الى انقسام الحركة إلى مجموعتين ؛ مجموعة “توريت” بقيادة الدكتور جون قرنق ، ومجموعة “الناصر” بقيادة رياك مشار ولام أكول ، وتطور هذا الصراع ليأخذ أبعادًا إثنية خطيرة ، ما أدى إلى اغتيال عدد من القيادات المؤسسة للحركة ، وأعاق قدرتها في ذلك الوقت ، بل كادت ان تعصف بها ، إلا أن الدكتور جون قرنق ، كان قائداً شجاعاً وحكيماً ، حيث ألقى خطاباً وطنياً مؤثراً وعابر للعرقيات ، مما اسهم في إعادة بناء الحركة الشعبية ، بل واستقطاب قوى الهامش السوداني حول مشروع “السودان الجديد” ، مما عزز رغم التحديات ، استمرارية مشروع السودان الجديد الى يومنا هذا.
نواصل
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة