اخبار السودان

السوداني إبراهيم الأعيسر “بوهيمي” في شوارع القاهرة

ينتمي كتاب “بوهيمي في شوارع القاهرة” (دار عندليب) إلى حقل السيرة الذاتية، وهذا النوع الأدبي غير مطروق كثيراً في الكتابات السردية العربية، لما فيه من مكاشفة وتعرية للذات والأشخاص، وإماطة اللثام عن أفكار أو معتقدات وآراء، عادة ما يُتهرب من سردها، ويُتخفى للبوح بها خلف ظلال الأبطال، في أعمال سردية تتخذ شكل الرواية أو القصة.

من الحرب إلى القاهرة

اختار الأعيسر أن يأخذ قارئه في رحلة قاسية ومترعة بالألم والمشقة عبر شوارع القاهرة، ليس كفنان مبدع يبحث عن الإلهام، بل كلاجئ سوداني يصارع من أجل البقاء، ممزق بين ذكريات الحرب وأحلام الحرية، لذا يحضر البوهيمي هنا ليكون من يعيش على الهامش، يتأرجح بين الأمل واليأس، يجد في الفن والحب ملاذاً موقتاً من غياب العدالة وقسوة الواقع، وعلى رغم هذا يجمع سرده جنباً إلى جنب بين الجمال والألم، منذ الفصل الأول “ذاكرة القاهرة”، الذي يبدأه بملاحظة “أن كل أحداث هذا الكتاب حقيقة”، ثم ينعطف ليحكي عن سبب تسميته إبراهيم، وعن وجود حرف “أ”، مطبوعاً على يده اليسرى.

لم يكن النزوح إلى القاهرة مجرد انتقال جغرافي، بل كان تحولاً وجودياً. القاهرة بزحامها وتناقضاتها أصبحت مسرحاً لمعاناة الأعيسر وصموده. اختياره كتابة سيرته، واعترافه بأنه تأثر بمحمد حسين (بهنس)، الذي فقد حياته جوعاً وبرداً في شوارع القاهرة، لم يكن الغرض منه مجرد سرد للأحداث، بل هو تأمل عميق في الهوية، غياب العدالة، الفقد، والبحث عن معنى وسط الفوضى والتشوه الإنساني المدمر للروح.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسة، كل منها يمثل “ذاكرة” تعكس جانباً من حياة الكاتب: ذاكرة القاهرة وذاكرة الحرب وذاكرة الحب وذاكرة الفن. هذه الأجزاء تشكل، عبر سرد سلس على رغم مأسويته، عوالم متشابكة ترسم صورة حية لتجربة إنسانية معقدة، تضع الحياة والإبداع على المحك. في فصل “ذاكرة القاهرة”، يصف الأعيسر المدينة كملاذ وجحيم في آن واحد. القاهرة بأزقتها المزدحمة وأسواقها الصاخبة كانت بالنسبة إليه ملجأً من الحرب، لكنها أيضاً سجن جديد. كلاجئ، واجه التمييز والبيروقراطية والشعور المستمر بالغربة. لكنه، كبوهيمي حقيقي، وجد في شوارع القاهرة إلهاماً، كان يتجول كمن يبحث عن ذاته بين الوجوه الغريبة، يكتب ملاحظاته على أوراق مهترئة، ويحول ألمه إلى كلمات.

 على مدار الصفحات، يحضر الفن بأوجه مختلفة، سواء عبر أشخاص أو أحداث أو مواقف، كي يمثل حارساً للكاتب يحميه من لحظات الانهيار، أو الوصول إلى قاع اليأس سواء بسبب تشرده في الشوارع، أو عمله كعامل نظافة في محل كوافير، يلتقي فيه أشخاصاً من مختلف الطبقات، يختبر نفسه في التحاور مع من يكتشفون ثقافته واختلافه، وأنه ليس مجرد عامل بسيط، كما يكتشف وجوهاً من الإنسانية عند غرباء لا يعرفهم، بل تقاطعت سبيله معهم، لنقرأ ما يقول: “في الحقيقة، على رغم المعاناة الحياتية الكبيرة التي عشتها في القاهرة، يمكنني القول إني كنت سعيداً بهذه التجربة التي أشبعت فيها شغفي بالحياة والفن، خصوصاً، وأنني احتكيت بشعوب عديدة عرفت عنها وتعلمت منها وغضبت منها أحياناً، وغضبت مني هي الأخرى، فالإنسان دائماً كائن غير مكتمل، منتج للفوضى”.

“ذاكرة الحرب” هي الجزء الأكثر قتامة في الكتاب. هنا، يعود الأعيسر إلى السودان، حيث شهد دمار الحرب وفقدان الأحبة. يروي قصصاً عن القصف والنزوح والخوف الذي يتسلل إلى النفوس، والميليشيات المسلحة وما تفعله بالقرى وشبابها العزل، لكنه لا يكتفي بسرد المأساة، بل يتأمل كيف شكلت الحرب هويته هو أيضاً، منذ قرر الهرب ومغادرة الأرض المحروقة. الحرب، التي تعيد تشكيل المجتمعات طبقياً وأخلاقياً، لم تسرق منه وطنه فحسب، بل جعلته يسأل: من أنا خارج هذا الدمار؟ ثم يكتشف أنه أصبح لاجئاً، بل إنه متسامح مع هذه الصفة التي ألصقت به منذ لحظة تقديم أوراقه إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

يروي الأعيسر مغامرة الرحيل مع المهربين، عبور الصحراء والوصول إلى أسوان، ويرى أن الحظ حالفه في أن السيارة التي حملته لم تتعرض للانقلاب، وسائقها المهرب العتيد لم يترك الركاب في وسط الصحراء، كما حصل مع آخرين، لم يبقَ منهم إلا كومة من عظام الجثث تدل على عبورهم في ذاك المكان. لقد انتهت رحلته بسلام، ووصل آمناً: “فأن تخرج من منطقة حرب ونزاعات مسلحة فيها كل أنواع وأشكال الجريمة إلى مكان آمن، تتشكل فيه صورة الدولة، يمنحك شعوراً كما لو أنك امتلكت كل سعادة هذا العالم”.

الحب والفن

في “ذاكرة الحب” يقدم الأعيسر وجهاً آخر لحياته البوهيمية، من خلال قصة حبه الملتبسة مع “بيلسان إمرهان” التي لا يكشف الكاتب ما إذا كان هذا اسمها فعلاً بما أنه يحكي سيرة ذاتية، لكنه يصفها بأنها سطحية، وتتخذ من الثقافة وسيلة للكسب المادي، وأنها لم تكن المرأة المناسبة له، وهو منذ البداية أدرك ذلك، لكن من الجانب الآخر، لم يكشف عن سبب استمرار العلاقة، حتى اللحظة التي أنهتها بيلسان بنفسها، قائلة: “بأنها لم تعد تحبه”، وهذا ما يبدو أنه لم يتسامح معه. هذا الحب منحه أملاً في البداية لكنه في النهاية يتركه أكثر وحدة. لا يخلو هذا الفصل من نزعة السرد الدرامي العاطفي الغاضب بشدة، على رغم أن قصة الحب لا تأخذ إلا جزءاً من الفصل، فإن خيبة الأمل الوجدانية وما تتركه من خواء داخلي يحضر بوضوح، يقول: “بعد أن هجرتني بيلسان، وتدهورت أوضاعي المادية، اختارتني الحياة أن أعيش كبوهيمي، متشرداً ومتنقلاً ما بين شوارع القاهرة، وما تسوقني له أقدامي بحثاً عن الرزق الحلال أو بحثاً عن الرفاهية الرخيصة”.

أما “ذاكرة الفن” فهي الجزء الذي يبرز فيه الأعيسر ككاتب ومبدع متعطش للمعرفة والاكتشاف. الفن، سواء بالكتابة أو الرسم أو الحوار المعرفي، كان وسيلته للنجاة. في شوارع القاهرة، وجد إلهاماً في الموسيقى الشعبية، القصص التي يرويها الغرباء، وحتى في صمت الليل. الكتابة بالنسبة إليه لم تكن مجرد تعبير، بل كانت فعل مقاومة، طريقة لإثبات وجوده في عالم يحاول محوه. يقول: “حين سلكت مجال الثقافة والكتابة، كانت اهتماماتي المعرفية والعلمية، بالدراسات العلمية المعقدة كدراسة الطبيعة وعلم الحيوان والبيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلك والفيزياء والفلسفة وعلم الاجتماع والأديان المقارنة. كنت أقضي ساعات طويلة في فترة ما بعد منتصف الليل لمشاهدة المحاضرات العلمية من جامعة ستانفورد وهارفرد وأوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية”. يركز الكاتب في كثير من المواقف على المفارقات الساخرة، التي تظهر عبثية الحياة، وتراجيديتها في وقت واحد، كأن يعتقد أحد الأشخاص الذين التقاهم على أبواب السفارات خلال رحلة الحصول على تأشيرة “الشنغن”، بقدرة السحر الأسود، على مساعدته لنيل التأشيرة.

يرى الأعيسر أن هذه السيرة هي التي كتبته، بعدما وجد نفسه كائناً غير مؤنس، نالت منه وحشية الرأسمالية المعاصرة وإفرازات الحرب، ربما حاول أن ينجو عبر الكتابة، من كل القسوة والوحشية التي واجهها وحيداً، أعزل، إلا من ثقافته ومعارفه، لكن يظل الجانب المضيء في هذه السيرة انحياز الكاتب ناحية الأمل أكثر من الخراب، رؤيته الجانب المشرق من الحياة، وإصراره على مواصلة مسيرته، وتكرار محاولاته لتحقيق حلمه بالهجرة إلى أوروبا، متخذاً من فرقة “ماجيك سيستم” الأفريقية، مثالاً يحتذى في الصبر وقوة الإرادة من أجل معانقة الأحلام الكبيرة.

لنا عبدالرحمن

اندبندنت عربية

 

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *