أحمد عثمان جبريل

ما من لحظة تكشف جوهر السياسيين أكثر من لحظة السؤال الصريح، حين لا ينفع التجميل ولا التورية.. فإما أن يُقال الصدق وتُحتمل تبعاته، أو يُلتف على وعي الناس بمحاولة خجولة لتزييف الحقيقة.
وفي سودان اليوم، المثقل بالحرب والخداع، لم يعد في وسع هذا الشعب أن يحتمل مزيدًا من المراوغة.

يقول عبد الرحمن الكواكبي: “الاستبداد أصل كل فساد، والجهل حليفه الذي لا يفارقه.”
وأخطر أنواع الاستبداد هو ذاك الذي يتخذ من الكذب السياسي وسيلةً لتخدير العقول، ويظن أن الشعوب تُقاد بالحكايات لا بالحقائق، وأن الوعي الشعبي يمكن أن يُختزل في قصة تُروى على عجل.

1
كلما شاهدت مقطع الفيديو لوزير المالية السوداني، الدكتور جبريل إبراهيم، في ظهوره الأخير على قناة الجزيرة مباشر، حينما وجّه الإعلامي أحمد طه سؤالًا مباشرًا لجبريل : “هل لعلي كرتي أو الإسلاميين دور في الشأن السوداني، حربًا أو سلمًا؟”.. وقد جاء جواب الوزير على هيئة رواية أقرب إلى الحكاية منها إلى الموقف (أصاب بالغثيان) وربما يكونوا كثيرين مثلي، إذ قال إنه سأل الفريق عبد الفتاح البرهان السؤال ذاته، فأجابه البرهان بأنه لم يلتقِ علي كرتي سوى مرة واحدة، في مأدبة عشاء بالصين حين كان ملحقًا عسكريًا، فيما قال كرتي إنه لا يتذكر هذا اللقاء، ولم يرَ البرهان إلا على شاشة التلفاز.. رواية تفتقر إلى المنطق والاتساق، قبل أن تفتقر إلى المصداقية.

2
الشعب السوداني الذي فجّر ثورة الحرية والسلام والعدالة، وأسقط نظامًا جثم على صدره ثلاثين عامًا، ليس ذلك الجمهور الساذج الذي تُلقى عليه القصص لينصرف صامتًا.
هو شعب صنع وعيه بالدمع والدم، وقرأ تاريخ البلاد سطرًا سطرًا، ويفهم كيف تتحرك القوى، ومن يقف خلف من.. لذلك، لم تجد هذه الرواية سبيلها إلى التصديق، لأنها ببساطة تُهين ذاكرته وتستخف بذكائه.

3
إن صدّق جبريل هذه القصة فعلًا، فالمأساة كبيرة؛ إذ كيف لرجلٍ في موقعه، يحمل خبرة في السياسة والحرب، والآن “يدعي الاقتصاد” أن يقبل حكايةً كهذه دون تمحيص؟ وإن لم يصدقها، ومع ذلك رواها أمام الملايين ببرودٍ كامل، فالمأساة أعظم، لأنه بذلك يشارك في تزييف وعي الناس، ويُهين عقولهم عن قصد.. وفي الحالتين”هو الضائع” إذ لا مفر من القول إن هذا الأسلوب من الخطاب يُسقط عن صاحبه هيبة المسؤولية، ويُضعف ما تبقّى من الثقة بين الشعب وحكامه.

4
ليست المسألة مجرد “قصة” تُروى، بل قضية وعي عام يُراد حرفه عن مساره.. فالإسلاميون، الذين يشكّلون محورًا أساسيًا في بنية النظام القديم، لم يختفوا بعد سقوط البشير، بل أعادوا ترتيب صفوفهم، وتموضعوا داخل المؤسسات، وشاركوا بوضوح في المشهدين العسكري والإعلامي.. والناس ترى ذلك بأم عينها، وتدرك أن من يدير بعض الخيوط في الخفاء لا يمكن أن يكون غائبًا كما يدّعي الخطاب الرسمي.

5
والذين يظنون أن السودانيين لا يرون الصورة كاملة، لم يعرفوا بعد عمق هذا الشعب.. فكل مواطن سوداني بات خبيرًا في قراءة المواقف، يعرف من أين تُدار الحروب، ومن يموّلها، ومن يحرك الإعلام الدعائي، ومن يُعيد رموز النظام السابق إلى الواجهة بأسماءٍ جديدة.. لا شيء يمرّ خلسة في بلدٍ صار كل بيتٍ فيه شاهدًا على الثمن الباهظ للكذب السياسي.

6
يا جبريل، لستَ حديث عهدٍ بالسياسة، ولا غريبًا عن دروبها، فاحترام وعي هذا الشعب ليس ترفًا بل واجب.. إن صدقتَ تلك الرواية فأنت تعيش وهمًا خطيرًا، وإن لم تصدقها فأنت تشارك في صناعة الوهم.. وفي الحالتين، التاريخ لا يرحم من يستهين بذاكرة الأمم، لأن الشعوب قد تصمت حينًا، لكنها لا تنسى من حاول خداعها.

7
إن ما يحتاجه السودان اليوم ليس مزيدًا من الخداع، بل قليلًا من الصدق، وكثيرًا من الشجاعة.. فالشعب الذي يدفن أبناءه يوميًا تحت القصف، ويُهجّر من أرضه، ويُقصى من قراره، يستحق روايةً تحترم وعيه لا حكايةً تُروى على عجل في نشرةٍ مسائية.
فالسودانيون، بكل وضوح، ليسوا سُذّجًا يا جبريل.. فلا تُهِن وعيهم.
إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.