أحمد عثمان جبريل
في زحام المآسي اليومية، يظن البعض أن الذاكرة الجمعية قصيرة، وأن الناس لا تميّز بين صوت الحقيقة وصدى الأكاذيب. لكن من عاش الحرب، لا يحتاج إلى من يخبره بمن أطلق النار أولًا، لأنه رأى بأم عينيه من كان يعدّ لها خلف ستار الدولة.
ومع كل محاولة لصناعة التباس، يخرج السؤال القديم “من أطلق الرصاصة الأولى؟”.
سؤال يبدو بريئًا، لكنه غالبًا ما يُطرح لتضليل النقاش لا لإنارته، ولتمرير أجندة لا لبناء وعي.
وفي مواجهة ذلك، تفرض الحقيقة نفسها.. حتى وإن طال حبسها.
كل كذبة تُقال عن وعي هي اعتداءٌ على الحقيقة، وكل صمت عنها هو مشاركة في الجريمة
جورج أورويل
(1)
في كل مرة يُطرح فيها سؤال “من أطلق الرصاصة الأولى؟” نعرف أنه ليس بحثًا عن إجابة، بل محاولة لتضليل النقاش العام.. هو سؤالٌ لا يُراد منه كشف الحقيقة، بل دفنها، وتحويل العيون عن أصل الحكاية.. إنه سؤال لا يُسأل ليُجاب عليه، بل ليُغلق به باب الوعي.
(2)
من يكرّر هذا السؤال يعرف تمامًا أن الرصاصة الأولى لم تُطلق في شارعٍ أو معسكر، بل في لحظة فكر فيها عمر البشير في بناء جيش موازٍ للدولة.. هناك في ذلك اليوم المشؤوم انطلقت الطلقة الحقيقية، لا من فوهة بندقية، بل من عقلٍ رأى في تقسيم المؤسسة العسكرية وسيلةً للبقاء، البقاء على كرسي السلطة (ونسوا نزع الله) وفي تسليح الولاءات بديلاً عن بناء الوطن.
(3)
منذ تلك اللحظة، وُضع حجر الأساس لعقيدة السلاح خارج المؤسسة، وأُسّست دولة الظل داخل الدولة، بميزان مختلّ لا يقوم على الدستور أو القانون، بل على القرب من دائرة القرار.. وما جاء لاحقًا من مواجهات، لم يكن سوى النتيجة الطبيعية لهذا الانحراف المؤسسي.
(4)
جوقة الصحافيين التي تعزف الآن لحن “من أطلق الرصاصة الأولى؟” تعرف الجواب جيدًا، بل كانت جزءًا من التخطيط.. يحركهم مايسترو خفيّ، يتقنون أداء أدوارهم، ويوزعون الكذبة بذكاءٍ لا يخلو من الخسة.. بعضهم باع ضميره، وبعضهم يُنكر ما يعرفه، وآخرون يرون في الكذب وسيلة للنجاة.
(5)
كلما اقتربت أطراف الفعل السياسي من نقطة اتفاق أو هدوء نسبي، فجّرت الجوقة حدثًا مصطنعًا، أو ضخموا هامشًا حتى يطغى على المتن. لا يفعلون ذلك عبثًا، بل لقتل أي أمل في أن يسمع الناس صوت العقل.. كلما نضجت فكرة حل، شغلوهم بمقطع فيديو أو خبر مشبوه.
(6)
ما نحتاجه الآن ليس التراشق بالاتهامات، بل أن نضع هذه الحرب موضعها الصحيح في التاريخ الوطني “علامة انهيار، لكنها أيضًا فرصة لتأسيس جديد”.. يجب أن نقرأ هذا الخراب لا كقدرٍ حتمي، بل كدرسٍ أخير قبل أن نفتح صفحة جديدة تستحقها هذه البلاد.
(7)
الطريق إلى السلام لا يمر عبر صمت البنادق فقط، بل عبر تفكيك البنية التي أنتجت الحرب” تفكيك الجيش الموازي، إعادة هيكلة القوات النظامية، كسر منظومات المصالح، وإنهاء اقتصاد الحرب.”.. لا مصالحة دون اعتراف، ولا عدالة دون محاسبة.
(8)
في لحظة كهذه، فإن الصمت تواطؤ، والتبرير خيانة. من يعرف ولا يقول، يشارك في استمرار الموت.. الشعب لم يعد ساذجًا، بل صار يعرف الفرق بين من احترق بنار الحرب، ومن ظلّ يعزف في المسافة الآمنة.. لم تعد هذه معركة بنادق فقط، بل معركة وعي وضمير.
(9)
نحتاج أن تكون هذه الحرب هي الأخيرة، لا لأننا سئمنا الحرب فقط، بل لأننا نؤمن بأن هذه البلاد تستحق السلام.. وشعبها العظيم يستحق الحياة، فلتكن نهاية الرصاصة بداية الدولة. دولة تُبنى بالقانون لا بالرصاص، بالمؤسسات لا بالولاءات، وبالعدالة لا بالتسويات الزائفة.
أما الجوقة، أبواق الخراب ونعيقه، فليصمت صوتها.. قبل أن تعزف لنا لحنا يبشرنا بجنازة قادمة.. وأقلية أخرى منهم عبارة عن كومبارس يرددون ذات اللحن النشاذ لا يفقهون أبعاده. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير