الرحيل نحو الأبديّة : في تذكّر يحيى علوان (العراق)
حامد فضل الله
في مثل هذه المناسبات الحزينة ، تتقاطر الذكريات على الرأس : تأمُل الغربة ــ كملاذ مؤقت ــ بحلوها ومرها وهمومها ، منها هموم الوفاة خارج الوطن ، بعيداً عن ترابه ، عن مرتع الطفولة والأتراب والأهل والاصدقاء والذكريات الحميمة.
تعرّفت إلى الصديق المرحوم أبن الرافدين يحيى علوان مباشرة عند وصوله إلى برلين عام 1987م ، بعد مشاركته النضاليّة في حركة الأنصار ، كردستان العراق ، وكذلك جراء موجة الاعتقال والتغييب للآلاف من العراقيين من اليساريين وذوي الفكر الآخر والاجتهادات المختلفة. حاملاً معه تجربته على النطاق العام والخاص التي دوّنها لاحقاً في كتاباته. وبمرور الزمن توثّقت علاقتنا ، جمعنا الاِهتمام المشترك في مجال الأدب والثقافة عموماً. لقد كان يُهدي إليّ نتاجه الغزيز والمتنوّع في مجال الرواية والقصّة والنصوص النثريّة ومقالاته التحليليّة العديدة في المجال السياسي والفكري، وأُبادله بإنتاجي المُقلّ. وكذلك مساندته لنا في مِنبرنا “المُلتقى العربي للفكر والحوار”، كمحاضرٍ، أو مُشاركٍ في النقاش، وكانت ملاحظاته حول مسار المنبر ومقترحاته ، خير دليل لتطويرِ أسلوب عملنا.
يكتب يحيى بتاريخ 7 أكتوبر 2024م رسالة إلى الأخ الدكتور زياد موسى (عضو لجنة التنسيق ــ الملتقى العربي للفكر والحوار) : أخي زياد يبدو أن “الوعد” قد حل قريباً … حسب تقدير الأطباء حبذا لو رأيتك قبل الرحيل. ويرد زياد مباشرة ، الأخ الحبيب يحيى أنني حزين لسماع هذا الخبر ، تماسك انتظرني.
أخبرني زياد ، وانطلقنا في اليوم التالي مباشرة ، وبقينا معه ساعات طويلة ، كان فيها يحيى منطلقاً في الحديث والذكريات ، وربطها بنقاشات مطولة ومتعددة سابقة مع زياد ، فزياد كان يزور يحيى بانتظام رغم بعد المسافة ، وأعتقد أن هذه الزيارات ، كان لها تأثير نفسي كبير ، حيث بدأ يحيى يعود للكتابة في الصحافة والمجلات الثقافية ، وكما وعد أن يقدم ندوة في الملتقى عن “الفلسفة”.
كما أشير هنا إلى الندوات التي شاركت فيها مع يحيى ، في “مُنتدى بغداد للثقافة والفنون”، الذي يشرف عليه الاِعلامي عصام الياسري.
ولا أزالُ أذكرُ اللقاء رغم طول المساف عندما دعاني يحيى لزيارته في منزله ، وقتها كان في زيارته صديقه الباحث والأكاديمي العراقي البارز الدكتور عصام الخفاجي ، قادماً من هولندا. وكان في زيارتي في نفس الوقت الصديق الراحل نبيل يعقوب (مصر) قادماً من مدينة درسدن. لقد كانت سعادتي طاغية بالتعرف على عصام شخصياً ، حيث كنت أتابع أبحاثه المنشورة وخاصّة كتابه الهام “جدل” للعلوم الاجتماعية الذي يصدر نصف سنوي ، وتوقف الإصدار مثل كلّ أشيائنا الجميلة ، بسبب ضيق الحال ، كما قرأتُ لاحقاً كتابه الموسوم “ولادات متعسّرة ، العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق”، والكتاب صدر أولاً باللغة الاِنجليزية ، وقام عصام بنفسة بالترجمة إلى العربية وصدر عن المركز القومي للترجمة القاهرة عام 2013م .لقد امتدت جلستنا الرباعيّة حتى بزوغ الفجر ، تطرّقنا فيها إلى العديد من الموضوعات في مجال السياسة والفكر والأدب.
لقد انضم (يحيى وعصام) في سنّ مبكرة إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي ، وشاركا في النضال السياسي الميداني والعمل الفكري ومع تناقضات الحركة الثوريّة وتعدد الرؤى وتعمق وتوسع المعرفة، فأختلف مسارهما ، ولكنهما لم يتنكّرا أبداً لتاريخهما النضالي المضيء في الحزب الشيوعي العراقي..
مع الوقت تعمّقت علاقتي بيحيى علوان ، فكان يزورني مع بعض الرفاق، رغم متاعبهِ الصحيّة ، بعد أن صرتُ حبيسَ الدّار ، حاملاً معه مرّة كتابيهِ :
“مُطارد بين ــ الله ــ والحدود” و”تقاسيم على وطن منفرد”. يقول في مدخل تقاسيم ، جملة معبرة : (لوطنٍ فُطرنا على حُبه ، لكننا لم نُفطُم عن عِشُقه، رغم ما حلُ به من نزلات…! . وإلى كُلُ الشهداء والضحايا الذين رحلوا نيابة عنا ، ولكلّ الذين يْحملون مَشاعل التنوير نحو انعتاق البشرية…).
لقد قرأت الكتابين بكثير من المتعة والإعجاب ففي كتاب “تقاسيم على وطن منفرد” أكثر من عشرين نصاً ، خرجت من إطار التجنيس الأدبي ، وبما أن النصوص متفاوتة ، فتأتي الصياغة في بعض النصوص بلغة شاعرية جميلة ، وفي أخرى أقرب إلى الكتابة الصحفية. كما يلعب المكان دوراً هاماً ، هنا مكانُ طاردُ ومُشتهى ، وأخر مُستقبِل فيه أسباب الحرية والحياة.
أما كتابه الوثائقي الهام “مطارد بين الله والحدود” الذي يكشف عن عمله المتواصل في صفوف الحركة الثورية اليسارية العراقية (الحزب الشيوعي العراقي) وخاصة في المجال الاِعلامي والترجمة ، بحكم تخرجه من قسم الأدب الإنكليزي بجامعة بغداد ومواصلة نضاله السياسي رغم ما تعرض له من حبس وتشريد ومخاطر جسدية ونفسية ، حتى مغادرة وطنه مًكرهاً. لقد بارحه جسدياً فقط، فهو يعيش أحلامه وآلامه وأماله ، عندما يكتب:
أُصبّحُ بالخيرِ على وطنٍ لا يُبارحني ، حتى في المنام …
أُصبّحُ بالخيرِ على عراقٍ ، غدا تَرَفَاً أنْ تكونَ فيه سَويّاً .. تحترمُ العقلَ والعِلمَ والجمال ..و..وو
دون أنْ تدفَعَ ثمن ذلكَ غالياً جداً ! .
أُصبّحُ بالخيرِ على وطنٍ أُصيبَ بالدُّوَارِ، حدَّ الغَثيان ، من كَذِبِ الحُكّامِ وشعاراتهم ، وشبيبةٍ تُنحرُ
لأنها رَفَعت الصوتَ ، لا السلاحَ! ، مُطالبةً باستعادة وطنٍ إرتُهنَ لأوباشٍ”ولائيين” ومَنْ حازَبَهم ! .
أُصبّحُ بالخيرِ على بَلَدٍ كَفَرَتْ فيه ، حتى الآلهةُ ، بصلاةِ دَجّالينَ، قَطَعوا أية صلةٍ بالعدالة والرحمة والتقوى ! .
في نص “شمعة أمي ودمعة أبي” يؤرقه الحنين والغربة ، وما يكابده من حزن وخوف وحنين وعتاب وبالإضافة إلى الخيبات والانكسارات. التي تصير تساؤلات موجعة أحيانا.
“.. هي أُمِّي وأنا بِكرُهـا ” العاق ” ! أضَعتُهـا ، منذُ ظَنَنتُ أنني ” امتلكت قضية ! “… وكأَنَّ ” القضيّةَ ” تستلزمُ أَنْ أهملَ أُمي وأُجافيهـا .. ”
من جهة أخرى كانت له رؤيته الخاصة عن الحرية.
فالحريةُ ليست في تغيير الواقع ، إنْ كان ذلك ممكناً ! .
بل في ألاّ نسمحَ للسائد أنْ يُغيرنا ، كما يَهوى .
يحرس يحيى على اختيار مفرداته بعناية فائقة ، فيكتب :
صاحبي يُتابعني في كلِّ نصٍّ أنشره ، وإنْ سكَتُّ ، يلاحقني .. وأنا مُمتنٌّ له في ذلك .
أقولُ له ، أحياناً ، أنني منشغلٌ بشحن “بطارية الكتابة” قراءةً ، حتى لا تَترهّل مفردتي ..
كما يشتغل يحيى ، على ما يسميها “كتابة الأفُروزمن” ، لا سيما ثلاثية (الهمس) ( همسْ .. الجثة لا تسبحُ ضد التيار) والأفُروزمن هي جمل قصيرة تعبر عن حكم عميقة ، ومضمون فلسفي أو حقائق عامة بطريقة خاصة ، قابلة للكثير من التحليل والتأويل ، وهي موجودة منذ العصور القديمة.
Aphorismen
وهو عاشقٌ مولعٌ بالموسيقا ومكتبتهُ عامرة بالكثير ، الجميل والممتع منها.
اتسمت نصوص يحيى بالكثافة والتركيز والاِيجاز ، مع جمالية الصياغة وتحمل الكثير من المعاني ، مما تدفع القارئ للتفكير والتأمل ، وبذلك يصبح مشاركاً في صياغة النص. ويمكن اعتبار بعض نصوصه ، ما يسمى بالنص المفتوح ، أو الكتابة عبر النوعية ، حسب تعبير الروائي والناقد الأدبي إدوار الخراط ، بمعنى تداخل الأجناس الأدبية في نص واحد.
قرأت منذ فترة وجيزة مقاله الأخير بعنوان “تجربة متواضعة مع الثقافة الجديدة”، في العدد 447 أيلول 2024م من مجلة الثقافة الجديدة ، كتب يحيى هذا المقال وهو طريح الفراش في المستشفى ، يقول في المقدمة “كان يمكن لهذه السطور أن تكون ضمن العدد الخاص احتفاءً بالذكرى الـ 70 لصدور “الثقافة الجديدة” لكن عارضاً صحيّاً جديّاً ألمّ بي ، ولمّا يزل ، حال دون ذلك”.
قرأت المقال بكثير من المتعة ، يطلعنا يحيى على تجربته في بداية عمله في الصحافة الحزبية وعلاقته مع العديد من رؤساء أو مديري التحرير ، بما فيها من نزاع أو انسجام ووصف للأمكنة … يندهش المرء لذاكرة يحيى المتينة، وهو يعاني الآلام المبرحة ، ليكتب مثل هذا النص البديع.
يقول سيّد البحراوي ، أستاذ النقد ألأدبي الراحل “بأنّ الألم قرين الحياة ، بمعنى أنّه أصبح جزءاً من حياتنا” سعي البشر إذن إلى الراحة هو مجابهة الألم ، ولولا الألم لما سعوا ولما أبدعوا علماً وفناً”. من كتاب “مديح الألم” .
ويكتب يحيى : “هل الكتابة مِحنة؟ نعم! إنّها مِحنة لا تمحوها إلاّ متعة الانتصار”.
قبل أشهر أرسلت للصديق يحيى مراجعتي لكتاب الدكتور فتح الرحمن التوم الحسن ، أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين الخرطوم بعنوان “كولونيالية الاِسلام السياسي ، أزمة الوطن والوطنية والمواطنة في خطاب الاِخوان ، السودان نموذجاً.
فجاء ردّه :
الصديق العزيز حامد :
حيّاكَ وبيّاك .. وسَلِمَتْ يداك على المادة الممتازة ، “قرأتها بإمعانٍ ، فسررتُ بها كثيراً. إليك أسباب سروري:
1) وجدتها مادة رصينة ، غير مُتعجّلة.
2) أعجبتني فيها التساؤلات والحجج المعقولة ، بما في ذلك النقدات المُلطّفة التي لا تستدعي تشنُّجَ الكاتب إزاءها .
آمل أن يتلقاها أستاذ الفلسفة بروح علمية في البحث والاستعداد للتحاور، بغية الوصول إلى توصيف أدقّ للموضوع المطروح ، خدمة للبحث العلمي وبروح التسامح.
3) مهم جداً بالنسبة لي أنَّ المعالجة جاءت خُلواً من الغِلِّ والغُلُوْ ، وهي آفةٌ كثرة من الكتابات العربية للأسف .. ذلك أنهما يغلقان العقل وعندها ينتهي الحوار والتفاعل أو تلاقح الأفكار ، مما يُعرقل تراكم الخبرة ، لتصير نهجاً يؤدّي إلى صيرورة “التسامح” عُرفاً شائعاً عملياً ، لا لفظياً فقط ، كما هو سائد الآن … أملي كبير بمثقفي السودان في هذا المِضمار ، عَلّنا في المشرق نُصابُ بهذه “العدوى”! .
شكراً لك على هذه المادة الممتازة، وإلى المزيد من مثلها.
في 21 تشرين الأول ــ أكتوبر 2024م أزفت ساعة الرحيل.
وسافر يحيى إلى بلد بعيد… بعيد!
وأرددُ مع شاعرنا السوداني الكبير صلاح أحمد إبراهيم :
ما الذي أقسى من الموت؟
فهذا قد كشفنا سِرّه وخبرنا مُرّه
آخرُ العمرِ ، قصيراً أم طويلْ :
كفنُ من طرفِ السوقِ وشبرُ في المقابرْ
ولمن وَلًّى حديثٌ يؤثُر
ولمن وَلًّى حديثُ يذكرُ
(من قصيدة “نحن والردى”)
وأنشدُ مع بدر شاكر السياب شاعر العراق العظيم :
لك الحمد مهما استطال البلاء / ومهما استبدّ الألم / لك الحمد ، إنّ الرزايا عطا
وإن المُصيبات بعض الكرم / ألم تعطني أنت هذا الظلام / وأعطيتني أنت هذا السحر
(من قصيدة “سفر أيوب”)
العزيز يحيى “كان بدري على وداعك” وستبقى ذكراك العطرة ، حاضرة في عقولنا ، متوهّجة في قلوبنا ، وحيّة فاعلة في تاريخنا البرليني.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة