يُعد الذهب أكبر ثروة طبيعية في السودان ومصدره الرئيسي للعملات الصعبة، لكنه ظل محاطاً باتهامات بالتهريب والفساد منذ عهد البشير وحتى اليوم. فبينما يُقدَّر الإنتاج السنوي بنحو 100 طن، لا يتجاوز الصادر الرسمي 65 طناً، في ظل شبكات تهريب تمتد إلى الإمارات ومصر، واستخدام واسع للتعدين التقليدي الخطِر. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، تحول الذهب إلى أداة رئيسية لتمويل أطراف الصراع، ما عمّق أزماته الاقتصادية وكشف فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة هذا المورد الاستراتيجي..
تقرير: التغيير
يُتهم السودان منذ سنوات بتهريب جزء كبير من إنتاجه من الذهب إلى دولة الإمارات عبر الموانئ والمطارات الرئيسية، وهي اتهامات ترددت على نطاق واسع في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. ومع قرار أبوظبي الأخير بوقف واردات الذهب السوداني عبر المنافذ الرسمية، لم تتوقف الشبهات حول استمرار التهريب، حيث تشير الفجوة بين الإنتاج المقدر بنحو 100 طن سنوياً، والصادر الرسمي الذي لا يتجاوز 65 طناً، إلى وجود ثغرات تقلل من عوائد المعدن الأصفر.
جهات عديدة قوات الدعم السريع بأنها تزود الإمارات بكميات ضخمة من ذهب دارفور المستخرج من مناجم سنجو
وتشير تقارير حديثة إلى أن السودان بدأ توجيه صادراته من الذهب إلى سلطنة عُمان، حيث انطلقت أولى الشحنات بالفعل، في وقت يجري فيه العمل على اتفاقيات مماثلة مع قطر ومصر، تشمل إنشاء بورصة للذهب وتنظيم حركة الصادرات
وتبرز أهمية الذهب في السودان باعتباره المصدر الرئيسي حالياً للعملات الصعبة للحكومة السودانية، في وقت تتهم جهات عديدة قوات الدعم السريع بأنها تزود الإمارات بكميات ضخمة من ذهب دارفور المستخرج من مناجم سنجو، التي تضم نحو 12 منجماً. ويُعتقد أن العائدات تموّل جيوش الطرفين في الحرب المستمرة منذ أبريل 2023.
إنتاج ضخم
في العام 2024، أنتج السودان 64.4 طنًا من الذهب بعائدات حكومية قاربت مليار وستمئة مليون دولار، ليحتل المرتبة السادسة عشر عالميًا والخامسة إفريقيًا وبحسب الدراسات يمتلك السودان احتياطيًا مؤكدًا يقدر بـ 533 طنًا، واحتياطيًا محتملاً يتجاوز 1100 طن.
ورغم ضخامة هذا الكنز، يواجه قطاع الذهب في السودان واقعاً مريراً؛ إذ يُستخرج أكثر من 80% من الإنتاج بطرق تقليدية خطرة، باستخدام مواد سامة مثل الزئبق والسيانيد. ويُهرَّب جزء كبير من الذهب لصالح جهات نافذة ولتمويل النزاعات المسلحة، وسط غياب رقابة فاعلة. وقد أقرّ محمد طاهر، مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية، بأن «نحو نصف إنتاج البلاد يُهرَّب عبر الحدود».
قرارات وصراع
مؤخراً أصدر مجلس السيادة الانتقالي بالرقم (106) لسنة 2025 بشأن إنشاء وتنظيم بيع وتصدير الذهب، جدلاً واسعاً في أوساط المصدرين والاقتصاديين.
ونص القرار على إنشاء بورصة رسمية باسم بورصة السودان العالمية للذهب، وتحديد مقرها في الخرطوم، مع إمكانية إنشاء فروع داخل وخارج البلاد حيث سيتولى بنك السودان الإشراف والشراء من المنتجين.
فيما أعلنت شعبة مصدري الذهب في السودان، رفضها القاطع لقرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية، بشأن تنظيم تجارة وتصدير الذهب، واصفة إياها بالكارثية والمدمرة للاقتصاد الوطني.
وحذرت الشعبة من أن هذه القرارات ستفاقم ظاهرة تهريب الذهب بدلاً من الحد منها، وقالت إنها ستعمق الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وأشارت إلى أن احتكار الذهب بواسطة بنك السودان تم تجريبه في عهد الإنقاذ وحكومة حمدوك، وكانت نتائجه مزيداً من التهريب.
أعلنت شعبة مصدري الذهب في السودان، رفضها القاطع لقرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية، بشأن تنظيم تجارة وتصدير الذهب
وتناولت الصحف السودانية ملف تهريب الذهب عبر القنوات الرسمية منذ حقبة نظام البشير، واستمر الجدل حوله خلال فترة الحكومة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر 2018، إلى درجة دفعت السلطات آنذاك لفتح تحقيق في الاتهامات، غير أن نتائجه لم تُعلن حتى اندلاع الحرب. ومع تصاعد النزاع، وُجِّهت أصابع الاتهام إلى قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بتهريب الذهب إلى الإمارات.
التهريب شمالا
وأشارت مصادر صحفية إلى أن معظم الذهب المستخرج من شركات «الكرتة» والتعدين التقليدي في ولايتي الشمالية ونهر النيل يُهرَّب عبر الحدود إلى مصر، حيث تُجرى له اختبارات الجودة قبل دخوله أسواق القاهرة. ومؤخراً، أعلنت السلطات ضبط أكثر من 50 كيلوغراماً كانت في طريقها إلى مصر عبر طرق غير شرعية.
مسارات التهريب
الباحث في منظمة «سويس إيد» التنموية التي تتعقب تهريب الذهب الإفريقي إلى دول الخليج، مارك أوريل، قال: «لحل الحرب في السودان، علينا أن نتبع مسار الذهب، وسنصل إلى الإمارات».
لإنهاء الحرب، علينا أن نتبع مسار الذهب، وسنصل إلى الإمارات
باحث في منظمة «سويس إيد»
في عام 2023، أظهرت بيانات حصلت عليها «سويس إيد» أن واردات الإمارات من الذهب من تشاد الواقعة على الحدود الغربية للسودان كانت أكثر من ضعف القدرة التقديرية القصوى لتشاد، مما يشير إلى أن الجزء الأكبر من الذهب لم يُعلن عنه، وتم تهريبه فيما نفت الإمارات «أي ادعاءات لا أساس لها بشأن تهريب أو الاستفادة من الذهب»..

يقول الخبير الاقتصادي والمتخصص في مجال الذهب والأوراق المالية، محمد عثمان حيدر لـ«التغيير»: “في حال وجد السودان سوق بديل لصادر الذهب بعد توقف الأسواق في دبي عن استقبال الإنتاج حينها يمكن أن نعرف كمية الذهب المهرب بالطرق الرسمية، فإذا زادت الإيرادات معناه أن التهريب (والكوميشنات) والعمليات القذرة كانت عبر المطارات وبعلم الحكومة.”
ويرجح حيدر كفة التهريب عبر الحدود قائلا: الآن بدأ الحديث عن تهريب الذهب شمالا باتجاه مصر وهو حديث منطقي لقرب المسافة بين البلدين.
وأوضح المصدر المختص أن «الأخطر يتمثل في التهريب الذي قد تلجأ إليه شركات الكرتة بعد قرار مجلس الوزراء إلزامها ببيع الذهب للبنك المركزي»، مشيراً إلى أن رفض التجار التعامل عبر نافذة بنك السودان يُعد مؤشراً خطيراً على اتجاههم للتهريب بغرض تحقيق مكاسب مالية، لكون السعر الحكومي أقل من سعر السوق. وأضاف أن ما يغفل عنه البعض هو أن الحكومة يمكن أن تصدر قراراً باحتكار التنقيب ووقف التعدين العشوائي، لافتاً إلى أن الشركة السودانية للموارد المعدنية تأسست أصلاً بغرض تقنين التعدين التقليدي.
وأشار إلى أن حجم الذهب المستخرج عبر التعدين التقليدي وشركات الكرتة في ولاية نهر النيل يُقدَّر بنحو 20 طناً سنوياً، وهو رقم يقترب من حجم الإنتاج في الولاية الشمالية.
ودعا الخبير الاقتصادي والمتخصص في مجال الذهب والأوراق المالية، محمد عثمان حيدر إلى تأميم شركات الامتياز التي تنتج أطناناً من الذهب في مساحات كبيرة علي غرار ما تفعله بعض الدول المجاورة مثل السعودية.
يمكن تعديل القوانين والاتفاقيات المبرمة مع شركات الذهب
خبير اقتصادي متخصص في مجال الذهب
ولفت إلى أن هذه شركات الذهب تعمل بقدر كبير من الاستقلالية، بحيث لا تتوفر بيانات دقيقة عن حجم إنتاجها، وسط شبهات فساد في علاقاتها مع جهات حكومية. وأضاف أنه في حال عجزت الحكومة عن ضبط نشاطها، يمكن تعديل القوانين والاتفاقيات المبرمة بحيث تؤول 60% من العائدات للحكومة مقابل 40% للشركات، على أن يتم التوجه نحو تصنيع الذهب محلياً لتعظيم الفائدة الاقتصادية.
من جانبه، يرى الكاتب فيصل إبراهيم خيري، أن الحكومات السودانية المتعاقبة تعاملت مع ملف الذهب وفقاً لمصالح حزبية وشخصية، مشيراً إلى أن “حكومة الإنقاذ كانت المثال الأوضح لذلك، حيث ظل الذهب باباً واسعاً للفساد، واستمر هذا النهج حتى اليوم”.
وأضاف خيري أن معظم دول العالم تنظر إلى الذهب باعتباره احتياطياً يُدار عبر البنوك المركزية للمحافظة على قوة العملة، “لكن في السودان أصبح الذهب المصدر الأول للصادرات، رغم أن البلاد تُعد أكبر دولة زراعية في أفريقيا والعالم العربي”.
وأكد فيصل أن تهريب الذهب لن يتوقف في ظل الحرب والفوضى التي تضرب البلاد وعدم تطبيق القانون مشيراً إلى أن إيقاف الأسواق الإماراتية للصادر السوداني سيزيد التهريب خاصة لمصر وتشاد.
المصدر: صحيفة التغيير