الذكرى المئوية لثورة 1924 «7»..كيف ساهم عرفات محمد عبد الله في ثورة 1924؟
بقلم: تاج السر عثمان بابو
(1)
بمناسبة الذكرى المئوية لثورة 1924، والذكرى 68 لاستقلال السودان نتناول في هذه الدراسة سيرة المناضل عرفات محمد عبد الله ( 1898 1936م) الذي كان من ثوار1924، ومن أعلام وصناع الاستقلال، و ساهم في ارساء دعائم النهضة الحديثة التي عبر عنها في مقالاته ودراساته التي نشرها في مجلتي “النهضة ” و”الفجر” اللتين صدرتا في ثلاثنيات القرن الماضي، فضلا عن أن عرفات كان من قيادات جمعية اللواء الأبيض البارزين، وساهم في تفجير ثورة 1924 التى نحتفل بذكراها المئوية هذا العام.
بذل المرحوم د. قاسم عثمان نور جهدا كبيرا، و مقدرا في جمع مقالات عرفات في كتاب بعنوان ” عرفات محمد عبد الله : قل هذا سبيلي : مجموعة مقالات ، اعداد وتقديم : قاسم عثمان نور، اصدار مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2000″. فما هي أهم معالم سيرة عرفات محمد عبد الله؟.
(2)
نعت مجلة الفجر الي الأمة السودانية عرفات في عددها الخاص رقم (2) الصادر بتاريخ الخميس : 23 يوليو 1936 بقلوب مكلومة ومحزونة، وأشارت الي أنه كان رجلا من أخلص أبناء البلاد ، وأحدبهم عليها واصدقهم حبا لها وتفانيا في خدمتها في حياتها السياسية والاجتماعية والأدبية حيث ضحى بالمال والجهد وأخيرا بالحياة ، وتبارى كتاب مجلة الفجر وغيرهم مثل : محمد أحمد المحجوب، وأحمد يوسف هاشم . الخ، في ذكر مآثره ومحاسنه ودوره في تقدم ونهضة الوطن، ومن تلك الكتابات والاضاءات ظهرت جوانب مخفية من سيرة و تضحيات ونضال عرفات من أجل حرية واستقلال الوطن ، فهو كان فعلا لا قولا من أعلام وصناع الاستقلال و نهضة البلاد ، ومن الذين غرسوا نواة العمل الصحفي الرصين .
وُلد عرفات محمد عبد الله عام 1898 ذلك العام الذي شهد هزيمة الدولة المهدية علي اسنة رماح قوات الاحتلال الانجليزي المصري، ولا شك أن تلك الظروف التي وُلد فيها كان لها الأثر على عرفات الذي تميّز بحب الوطن والتضحية والجهاد من أجل تقدم وعزة السودان . الذين عاصروا عرفات منذ أن كان طالبا تحدثوا عن نبوغه وذكائه ودماثة أخلاقه ، وأنه كان يفطن لأدق المسائل ، كتب محمد أحمد المحجوب ” كان يبدو ذاهلا متشاغلا عن الدرس حتى كاد بعض الناس يحسبه مهملا، ولكن فاتهم أن العبقري لا يقوى علي سماع الحديث المكرر، ولا يستطيع كبح نفسه عن التطلع الي العوالم التي تتراءى أمام عينيه ويحصر نفسه في دنيا الفصل، وذلك شأن الرجل الحالم، فقد كان عرفات يحلم بتأثيل مجد طارف، وكان يعمل لذلك حتى موته”.
انقضت أيام الدراسة وكان عرفات في الطليعة وانخرط كغيره من زملائه في سلك الوظيفة الحكومية والتحق بمصلحة البريد والبرق، وكان مثالا للموظف المجد، ولما كان رب عائلة كبيرة وكان مرتبه لا يفي بحاجته، كان يعمل في أوقات فراغه في البيوت التجارية ليحصل علي بعض المال ليتساعد به في حياته. من هذا المثل يتضح لنا أن عرفات لم يستسلم لوظيفة واحدة فقط ومرتبها، بل سعى بكل جد وهمة ونشاط لسد النقص بمرتبه بالعمل الاضافي في الغرف التجارية، لا شك أن ذلك كان له الأثر في توسيع افقه ومداركه ومعرفته بعوالم جديدة غير عالم الوظيفة، مما اكسبه تجارب وخبرات ومعارف جديدة .
(3)
كان عرفات قارئا نهما يقضي لياليه يقرأ ويكتب ، كما كان يعرج الي اصحابه يتجاذب معهم أطراف الحديث، وقراءة الشعر، وقد كانت له مساهماته المتميزة في تلك المجالس.
عرفات من المؤسسين لجمعية اللواء الأبيض، ومن قادة ثورة 1924، وكان مع عبيد حاج الأمين وغيرهما بمثابة الراس المفكر واليد المحركة، وهو الذي نشر نداء الثورة باللغة الانجليزية على صفحات التايمز، ونشرت صحيفة الأهرام ترجمته، وذلك في وقت كان كتاب اللغة الانجليزية لا وجود لهم في السودان، ولكن عرفات كان سباقا في كل حلبة كما ذكر محمد أحمد المحجوب.
وعندما طلبت منه قيادة اللواء الأبيض السفر الي مصر لم يتردد وضحى بعائلته ووظيفته ، فقد كانت له زوجة وطفلين، وفي مصر كان شعلةً من النشاط ، وامتزج بالأوساط المصرية، وقدموا له بعض الوظائف الا أنه رفضها وهو يقول : ” ما جئت الي مصر طالب مال ولا باحثا عن عمل، ولكن جئت أعرض مطالب شعب وأدافع عن قضية أمة”.
(4)
بعد مقتل السير لي استاك وهزيمة ثورة 1924 اُعتقل فزُج مع صحبه من السودانيين في السجن وظل فيه سبعة أشهر، وكان فيها مثالا للثبات والصبر والنزاهة، الثبات أمام القضاء والصبر علي مغص السجن والنزاهة في الرد علي ما يوجه اليه من اسئلة.
بعد خروجه من السجن ضاقت به الحياة مع صحبه من السودانيين، ونزل الي ميدان العمل الحر، وفتح حانوتا للبقالة يرتزق منه هو وابناؤه الطلبه الذين ذهبوا الي مصر طلبا للعلم، وبعدها نزح الي سينا واتصل بشركة التعدين الانجليزية وظل يعمل فيها زهاء العام، انفصل بعده من الشركة حسب رغبته، ويروى محمد أحمد المحجوب قصة طريفة حول ذلك يقول: ” وهناك له قصة طريفة مع مدير الشركة من الخير أن نرويها وذلك انه قدم استقالته، واعطى الشركة انذارشهر حسب شروط العقد الذي بينهما وظل في العمل نشطا مخلصا كما كان من قبل، وقد داخل المدير الريب وظن أن هذه الاستقالة مناورة يطلب من ورائها المزيد فقال له ذات يوم هل أنت مجد في استقالتك يا عرفات، فأجابه بأن نعم ، فقال له: ولكني اراك نشطا مجدا في العمل كأنك اتصلت بالشركة أمس الأول، فقال له ولكنى أعمل بنشاط لأني اتقاضي مرتبي عن هذه المدة، فأسف المدير، وعلم في تلك اللحظة أنه فقد رجلا ذا شعور عظيم بالواجب”.
من سينا ذهب عرفات الي جدة واتصل بشركة القناعة العربية والسيارات ، وكان في اوقات فراغه يعطي دروسا في اللغة الانجليزية والعربية لبعض الراغبين في الاستزادة من العلم، وجمع حوله جماعة من الصحاب السودانيين والمصريين والجداوين.
(5)
وبعدها قرر عرفات العودة للوطن ليعمل من داخله ، لأنه من الذين يؤمنون بأن الرجل لا يستطيع خدمة بلاده وهو خارج الحدود، وأن الصوت الذي يأتي من خارج الحدود يأتي خافتا، وبعد خمسه أعوام ونيف عاد بعدها للبلاد، وقد اكتسب تجارب عظيمة وازداد معرفة بالأيام والناس.
كتب محمد أحمد المحجوب ” قليل من الناس من يعرفون كيف عاد عرفات الي الحمى الا فليسمعوا كيف عاد ، كتب عرفات من جدة الي استاذه المستر هللسون وكان آنذاك مساعدا للسكرتير الإداري في الشؤون الأهلية طالبا منه أن يسهل له سبيل العودة الي بلاده ليعمل مع العاملين علي رفعتها، وقد مهد له استاذه سبيل العودة على أن يأخذ علي نفسه تعهدا للمحافظة على الأمن لمدة عامين، واذا أخل بذلك دفع خمسمائة من الجنيهات، ولعل السر الذي لا نعرفه هو الرسالة التى بعث بها للسكرتير الإداري يطلب العودة الي بلاده فما كان مستجديا ولا متملقا، ولكنه كان صريحا حرا، واليك ترجمة هذه الفقرة من تلك الرسالة ” ليس بدعا أن يطلب الرجل العودة الى بلاده، وعلى الأخص عندما يرى أمانيه وآماله تحطمت أمامه، لقد اشتركت ضمن فيمن اشترك في حركة سنة 1924 تدفعنى الي ذلك وطنيتي ولما أن فشلت في مهمتي اريد العودة اليوم الى بلادى، ، ولا اقطع على نفسي عهدا بأنني إذا دعتنى ظروف الخدمة العامة في بلادي سأحجم عن ذلك”.هكذا عاد الى الوطن ليواصل العمل و الكفاح من الداخل وفي مجالات متعددة ومتنوعة.
(6)
بعد عودته للوطن وجد وظيفة غير حكومية، وارتبط بالأعمال الخيرية والاصلاحية، فقام مثلا باخراج وتمثيل عدة روايات لمساعدة نادى الخريجين ، كما أسهم في اقامة السوق الخيرى الأول لمساعدة ملجأ القرش ، ومثل في رواية “اوليس” لمساعدة المدرسة الأهلية والأحفاد والملجأ ، وكان هدفه هو تقديم الخدمة للوطن من خلال ذلك.
وكان في أيامه الأولى موضوعا تحت رقابة شديدة، وكان الناس يهابونه ويتوجسون التقرب منه خوفا من الرقابة، وكان يبتسم ابتسامته العريضة الساخرة ويقول ” ياللرجال قد عمل الاضطهاد في نفوسهم ، فأصبحوا يخافون حتى من أنفسهم، وهذا شر ما انجبته سلطات الاستعمار”.
كان عرفات يؤمن بأن الصحافة أداة لخدمة الأمة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، وعندما عاد الى أرض الوطن كان يحس بالنقص الفاضح في الصحافة السودانية، ولم يتردد حينما دعاه محمد عباس ابو الريش بواسطة محمد أحمد المحجوب لاصدار مجلة “النهضة “، وكان مواظبا على العمل في خدمة الصحيفة في أقسامها المختلفة : التحرير، الإدارة، وكان من أكثر الناس حزنا عليها يوم ماتت بموت صاحبها محمد عباس ابو الريش.
وبعدها ساهم في اصدار مجلة “الفجر”، فكان ربانها وقائدها الحكيم ، ولعبت مجلة الفجر دورا كبيرا في الحياة الثقافية والاجتماعية والوطنية، وكان عرفات لا يعبأ لتحذير الأمن العام ولا يخشى تهديده، وكان يقابل التحذير والتهديد بصدر رحب وابتسامة صفراء، ويمضى في عمله غير عابئ بالتحذير ولا بالتهديد، ولسان حاله يقول ” ستعودهم الحرية حتى يألفوها وسنطالبهم بالحقوق حتى يقروها وسنريهم مقدرتنا على القيام بالواجب في غير ما ضوضاء حتى يكبروننا ( المحجوب).
نواصل
المصدر: صحيفة التغيير