اخبار السودان

الذكرى الـ 56 لانقلاب 25 مايو 1969 السودانية , اخبار السودان

الذكرى الـ 56 لانقلاب 25 مايو 1969

تاج السر عثمان بابو

تمر الذكرى الـ 56 لانقلاب 25 مايو 1969 الذي قوض تجربة الديمقراطية الثانية (1964 1969)، في ظروف الحرب اللعينة التي أحدثت دمارا شديدا في البنية التحتية وتشريد ونزوح أكثر من 12 مليون داخل وخارج البلاد، ومقتل أكثر من 150 الف وفقدان الآلاف من الأشخاص، إضافة للمأساة الإنسانية كما في النقص في الغذاء والدواء والارتفاع الجنوني في الأسعار وتدهور الأوضاع الصحية والأمنية وقيمة الجنية السوداني، وتضرر المواطنين من نهب ممتلكاتهم وعرباتهم ومنازلهم، وضرب محطات الكهرباء والماء ومستودعات الوقود والمطارات والفنادق والأسواق والمصانع والمزارع، مما أدى الانقطاع خدمات الكهرباء والماء والاتصالات، وغلاء الأسعار والمواصلات، ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية جراء الاعتقال التعسفي والتعذيب الوحشي والاغتيالات السياسية للناشطين في لجان الخدمات والتكايا، المعارضين للحرب. وتزايد جرائم الحرب كما في الابادة الجماعية والتطهير العرقي وقطع الرؤوس وبقر البطون والعنف الجنسي. الخ.

لقد انفجرت الحرب بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أعاد التمكين للطفيلية الاسلاموية وبعض الأموال المنهوبة للفاسدين والذي قامت به اللجنة الأمنية للنظام البائد مع الدعم السريع وحركات جوبا ومليشيات الإسلامويين، وأدى الاختلاف في الاتفاق الإطاري حول مدة دمج الدعم السريع في الجيش لانفجار الحرب. كما اتضح جليا انها حرب ضد المواطن ولتصفية الثورة، وتمكين المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب من نهب ثروات البلاد، مع خطر تحويل الحرب الى اثنية وعرقية تهدد وحدة البلاد، كما في الاتجاه لتكوين حكومة موازية غير شرعية  للدعم السريع وحلفائه، وتعيين البرهان لرئيس وزراء شكلي لتغطية الحكم الإسلاموي الديكتاتوري، فهو حكم انقلابي غير شرعي، في حين أن الواجب العاجل وقف الحرب كشرط للاستقرار.

بعد أكثر من عامين على الحرب اللعينة، لا بد من وقفها واستعادة مسار الثورة، وعدم الإفلات من العقاب، وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، والخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية، بترسيخ الديمقراطية والحكم المدني الديمقراطي.

نتابع بمناسبة الذكرى 56 لانقلاب 25 مايو 1969، كيف تم تقويض الديمقراطية الثانية، مما أدى للانقلاب، كما تابعنا من قبل تجربة تقويض الديمقراطية الأولى التي أدت لانقلاب 17 نوفمبر 1958، تقويض الديمقراطية الثالثة بانقلاب 30 يونيو 1989، وأخيرا تقويض الوثيقة الدستورية بانقلاب 25 أكتوبر 2021، فكيف تم تقويض الديمقراطية الثانية بانقلاب 25 مايو 1969؟.

1

أوضحنا في دراسة سابقة، بعد ثورة أكتوبر 1964م، ونجاح الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات، تمّ تكوين الحكومة الانتقالية الأولى بعد مفاوضات كانت في البداية بين جبهة الأحزاب وقيادات من القوات المسلحة، وفي وقت لاحق انضم اليها مندوبو جبهة الهيئات، وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي.

كان برنامج الفترة الانتقالية للحكومة الجديدة: حل مشكلة الجنوب ووقف الحرب الأهلية، ومكافحة الفساد، وحل مشاكل الجماهير المعيشية والاقتصادية، وإعداد قانون انتخابات لانتخاب جمعية تأسيسية في نهاية الفترة الانتقالية لإعداد دستور دائم للبلاد.

جاء تكوين الحكومة من جبهة الهيئات وتمثيل للعمال والمزارعين والأحزاب، والقيادات العليا في القوات المسلحة، برئاسة سر الختم الخليفة. كانت المطالب: إقالة عبود ومحاكمة أعضاء المجلس العسكري، وإعادة تنظيم الإدارة الأهلية، دعم جبهة الهيئات، تصفية الخدمة المدنية من قيادات النظام السابق الفاسدة، وقانون انتخابات ديمقراطي يتم فيه تمثيل المرأة والعمال والمزارعين والخريجين، وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات وتوسيع الحقوق الديمقراطية، وإلغاء قانون 1960م للنقابات واستبداله بقانون ديمقراطي يؤكد ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية، وتطبيق شروط الخدمة للعمال في القطاع العام في القطاع الخاص وزيادة أجورهم، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ووقف الحرب والحل السلمي الديمقراطي لمشكلة الجنوب.. إلخ.

رغم الضعف الذي لازم قوى الثورة مثل: أن الإضراب العام لم يكن محميا، والتآمر في المفاوضات التي كانت ترمى لتسليم السلطة للقوى التقليدية وعزل الحزب الشيوعي من المفاوضات في بداية الأمر، إلا أنه قامت حكومة انتقالية ذات طبيعة وطنية الغالب فيها أنها معادية للاستعمار، وكان من أهم الإنجازات على سبيل المثال لا الحصر:

إلغاء الأوامر الدستورية التي أصدرها الحكم العسكري (1958م 1964م)، والعودة لدستور 1956م الانتقالي المعدل 1964م الذي كفل في الفصل الثاني الحقوق والحريات الأساسية، حق الحرية والمساواة، حرية الدين والرأي وحق تأليف الجمعيات، وحظر القبض على الأشخاص ومصادرة ممتلكاتهم، التمتع بالحقوق الدستورية، واستقلال القضاء، وأكد في الفصل الثالث: أن السلطة القضائية هي حارسة الدستور، ولها اختصاص النظر والحكم في أي مسألة تشمل تفسيره أو تطبيق الحقوق والحريات الممنوحة بموجبه.

إلغاء قانون الجامعة لسنة 1960م، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة جميع الضباط الذين فُصلوا من الخدمة في ظل الحكم العسكري.

الغاء قانون النقابات لعام 1960م والعودة لقانون 1948م المعدل 1966م الذي كفل حرية العمل النقابي وتكوين الاتحادات النقابية، وتمّ الاعتراف باتحاد العمال.

وضعت حكومة سر الختم الخليفة مشكلة الجنوب على رأس أولوياتها، وضمت حكومته وزراء من الجنوب، لأول مرة تولى كلمنت امبورو وزارة سيادية (وزارة الداخلية)، وسعت لعقد مؤتمر المائدة المستديرة حتى انعقد في 1965م حول مشكلة الجنوب، رغم أن المؤتمر لم يتمكن من الوصول لقرار جماعي حول المسائل الادارية والدستورية، لكنه استطاع تكوين لجنة الاثني عشر التي أُسند إليها مهمة البحث عن حل في ذلك الخصوص، كما نجح المؤتمر في التعرف علي وجهات نظر القادة الجنوبيين وطبيعة تلك المشاكل، وضرورة اتخاذ خطوات عملية لحلها.

اتساع التضامن مع حركات التحرر الوطني في المنطقة كما حدث مع ثورات وحركات: الكونغو، والمؤتمر الوطني بجنوب أفريقيا، والشعب الاريتري، والجزائر وفلسطين، والجمهورية العربية المتحدة، الخ.

صدر قانون الانتخابات لعام 1965م الذي أعطى النساء حق التصويت والترشح للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وتخفيض سن الناخب من 21 سنة كما في قانون الانتخابات 1953م إلى 18 سنة، وأعطي للخريجين 15 دائرة، لكن من عيوبه: لم يمثل العمال والمزارعين، وتراجع عن تمثيل مناطق الإنتاج والوعي كما حدث في قانون 1953م، وقسّم الدوائر عدديا محضا.

2

كان زخم ثورة أكتوبر كبيرا وتعبيرا عن تراكم النضال والوعي لشعب السودان وصراعه من أجل تجديد حياته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والنضال من أجل استقلال السودان، أدى ذلك الزخم لاستيقاظ الريف السوداني، والوعي بأهمية التنمية وتوفير خدمات التعليم والصحة والخدمات البيطرية والإصلاح الزراعي الديمقراطي ومحو الأمية، والدفاع عن مصالح فقراء المزارعين والرعاة، وبرزت تنظيمات أبناء تلك المناطق للدفاع عن تلك المطالب بعد فشل الأحزاب التقليدية في تلبيتها، وانشغالها بكراسي الحكم، وقامت تنظيمات جبهة أبناء دارفور وجبال النوبا، واتحاد جنوب وشمال الفونج والروابط القبلية في المدن، وقبل ذلك تأسس مؤتمر البجا في شرق السودان في أكتوبر 1958م، واتسعت دائرة الاشتراكية والديمقراطية في السودان، بالتالي حرّكت ثورة أكتوبر ساكن الحياة في الحضر والريف، مما أصاب القوى التقليدية بالهلع، وأصبحت تضع المتاريس وتحيك المؤامرات لانتكاسة الثورة كما حدث في الآتي:

المحاولة الانقلابية في 9/ 11/ 1964م التي واجهتها الجماهير في (ليلة المتاريس) وتمّ إحباطها بعد اعتقال جميع أعضاء المجلس الأعلى السابق وترحيلهم الى زالنجي، واستقال الفريق عبود وأُعطي مرتب تقاعدي.

الفوضى والفتنة القبلية كما حدث يوم الأحد 6/ 12/ 1964م (الأحد الأسود الدامي) الذي قٌتل فيه عدد كبير من الأشخاص، وجرح اكثر من 400 شخص.

حادث واو يوم 11/ 7/ 1965 الذي وقع في حفلة عرس أدى لمقتل 56 في مخطط لتمزيق وحدة البلاد (جريدة الميدان 31/ 7/ 1965م).

الضغوط من حزب الأمة والأحزاب التقليدية على حكومة سر الختم الخليفة، لدرجة تسيير المواكب من المليشيات المسلحة للأنصار ضدها بهدف اسقاط الحكومة، واشتدت ضغوط حزب الأمة ومليشياته المسلحة على سر الختم الخليفة رئيس الوزراء، فاضطر لتقديم استقالة حكومته في 28 ديسمبر 1965م، بعد أن اشتدت الضغوط عليه.

3

بعد استقالة سر الختم الخليفة، تمّ تشكيل حكومة جديدة في 24 فبراير 1965م كان نصيب كل من حزب الأمة والوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وكتلة الجنوبيين بثلاثة وزراء، وتمثيل كل من الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين بوزير واحد، بالتالي اصبح للأحزاب التقليدية الأغلبية فيها، وتمّ الاسراع في الانتخابات المبكرة التي تقرر عقدها في يونيو 1965م.

جرت انتخابات 1965م بالقانون المشار له سابقا، وشارك فيها 12 حزب، وعدد الدوائر 233، وقاطع حزب الشعب الديمقراطي الانتخابات بسبب عدم قيامها في الجنوب، وكانت نتيجة الانتخابات: الأمة (92)، الوطني الاتحادي (73)، مستقلون (18)، مؤتمر البجا (15)، الحزب الشيوعي (11) وكلها في دوائر الخريجين، سانو (10)، جبال النوبا (10)، جبهة الميثاق (5)، وفازت فاطمة أحمد إبراهيم كأول امرأة تدخل البرلمان.

وتمّ تكوين حكومة ائتلافية بين الأمة والوطني الاتحادي رأس وزارتها محمد أحمد المحجوب، وبعد أن بلغ الصادق المهدي سن الثلاثين تمّ إخلاء دائرة كوستي له ودخل الجمعية التأسيسة، ولم يلبث قليلا حتى طالب برئاسة مجلس الوزراء من المحجوب، واصبح رئيسا للوزراء لفترة قصيرة بعدها تم إسقاط حكومته وعاد المحجوب لرئاسة الوزراء، كما خلق الصادق المهدي انشقاقا في حزب الأمة جناح الصادق والهادي المهدي.

4

بعد انتظام الجمعية التأسيسية ضاقت أحزاب الأمة والوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي (الإخوان المسلمين وحلفائهم بقيادة د. الترابي) بنشاط الحزب الشيوعي البرلماني الراقي والنقد الموضوعي لسياسات الحكومة وتقديم البديل، واتساع جماهيرية الحزب الشيوعي وندواته مثل: ندوة الأربعاء الاسبوعية التي كان يقيمها عبد الخالق محجوب، والتوزيع العالي لصحيفة الميدان لسان حال الحزب الشيوعي الذي أصبح ينافس الصحف الكبرى الأخرى.

قامت أحزاب (الأمة والوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي) بقيادة الإخوان المسلمين بتدبير و”فبركة” مؤامرة حل الحزب الشيوعي، وقامت المليشيات المسلحة لحزب الأمة والإخوان المسلمين بالهجوم علي دور الحزب الشيوعي مما أدى لتدمير وجرحى، ودافع الشيوعيون ببسالة عن دورهم في مواجهة “عنف البادية” كما أطلق عليه عبد الخالق محجوب، وعدلوا الدستور وتم طرد نوابه من البرلمان.

لكن المؤامرة واجهت مأزقا قانونيا وسياسيا وأخلاقيا، فدستور السودان المؤقت من الدساتير الجامدة التي لا يمكن تعديل مواده الأساسية، لا سيما فيما يختص بالحريات، فقد حدد مبارك زروق عام 1958م مبادئ تعديل الدستور وخلص إلى أن “دستور السودان من الدساتير التي لا يمكن تعديل مواده الأساسية”.

أما المأزق السياسي فقد خلق ذلك أزمة سياسية أدت لفقدان المصداقية في الأحزاب التقليدية التي قوضت الديمقراطية دفاعا عن مصالحها الأنانية الطبقية الضيّقة في محاولة يائسة لوقف نمو الوعي والطاقات الشبابية والنسائية التي فجرتها ثورة أكتوبر في الحضر ومواقع الأحزاب التقليدية في الريف.

أما الأخلاقية فتتجلى في الكذب و”فبركة” حادث معهد المعلمين العالي، ومحاكمة الحزب الشيوعي بأقوال طالب لا علاقة للحزب الشيوعي به، مما فضح تلك الأساليب الخبيثة التي وقف وراءها د. الترابي والإخوان المسلمين، وتلفيق تهمة الالحاد وغير ذلك من الأكاذيب، لقد وجد ذلك استنكارا واسعا وسط القوى الديمقراطية، وتم تكوين “مؤتمر الدفاع عن الديمقراطية” الذي ضم الحزب الشيوعي والتيار الديمقراطي داخل الوطني الاتحادي والنقابات. الخ، الذي ركز على الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة.

بعد ذلك رفع الحزب الشيوعي قضية دستورية الى المحكمة العليا، حكمت المحكمة ببطلان التعديلات التي اتخذتها الجمعية التأسيسية لأنها تتعارض مع الدستور، لكن الصادق المهدي الذي كان رئيسا لمجلس الوزراء يومئذ، رفض حكم المحكمة العليا واعتبره حكما تقريريا، مما أدى لتحقير القضاء وانتهاك استقلاله وقوض الدستور، وخلق أزمة حادة بين الحكومة والقضاء أدت لاستقالة رئيس القضاء، وتم تقويض الديمقراطية بدلا من استقرارها واستدامتها باعتبارها هدف أساسي من أهداف الثورة، مما قاد لانقلاب 25 مايو 1969م. مما يتطلب استدامة الديمقراطية والخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *