الطيب النقر

الطيب النقر

 

لست محتاجاً إلى أن أفصل القول، في حجم التحديات التي تنتظر الدكتور “كامل إدريس” في أداء مهامه، أو أُسهب في شرح دقائقها، فهي واضحة جلية، ولكننا نحِبُ قبل أن نُمْعِن في كنه هذه العقبات، التي سوف تذهل عقل رئيس وزراء السودان التاسع عشر، وتعكر صفو أيامه، أن نشير إلى أن هذه المعضلات التي تحتاج منه إلى تفكير عقلي محكم، وتمحيص، وصبر، واتزان، يعينه على اقتحام هذه الطائفة من الخطوب، قد تورط فيها نظام المؤتمر الوطني السابق، الذي نلومه لوماً شديداً، لأننا عشنا تحت أكنافه عمراً كاملاً من الشقاء، وفي الحق أن هذا النظام، الذي كان يتدثر برداء الإسلام، ويلتحف به، قد طغى وتجبر، حتى ظن أنه عصي على التغيير والتبديل، فاقتلعته ثورة هادرة لم يجد “المشير البشير”سبيلاً لقمعها، وثورة ديسمبر التي أودت بسطوة شرذمة حادت عن نهج جماعتها، وشقت عليها عصا الطاعة، وقاتلت أمينها حتى دحرته، تلك الشرذمة التي عاشت فترة طويلة والسيف لا يهمد في يدها، أودت بها طوائف صاخبة لم تكن تخشى المارقين الذين يجوسون الطرق ويقتحمون الدور، وظلت هذه الفئات على عنادها حتى نال من الأجهزة الأمنية الجهد، وتهادت أعينها تحت عبء السهاد الطويل، ولما أفلحت الثورة في تحقيق مبتغاها، التمستها الامبريالية الغربية وسيلة لبسط نفوذها عليها، فجرفتها بعيداً عن أهدافها، وأتحفتنا هذه الامبريالية المستبدة، “بحكومة الحرية والتغيير” التي وعدنا فيها “حادي ركبها” الطريد الشريد الآن، بأن السودان سوف ينعم بخفض العيش، ويستقر في مهاد النعمة، ولكن الشعب البائس المنكود، الذي يسبح في محيطات من العوز، والضنك، والمعاناة، لم يحظى بأي شيء من كل هذا، بل تفاجأ بأن ذوي السلطان والحول، والقوة والطول، لم يراعوا حقوق الأمانة التي ألقيت إليهم، وأن نظامهم السياسي الذي سقانا الصاب والعلقم، زادنا بؤساً وحسرة، ومحق ما بقي في أنفسنا من صبر ورضا، لأنه سعى أن يوطد في مجتمعنا خصالاً نستهجنها، ونظماً ننكرها، وتبعية أراد أن تمخر كرامتنا في عُبابها.

والسيد كامل ادريس، الذي يزحف الآن نحو السبعين، والمولود في قرية “الزورات” في أقصى شمالي السودان، والحاصل على درجة الدكتوراة في القانون الدولي من المعهد العالي للدراسات الدولية بجامعة جنيف في سويسرا، والذي سبق وأن تولى مناصباً مرموقة تابعة للأمم المتحدة، كما جاء في موقع الجزيرة، مثل الأمين العام للملكية الفكرية”الوايبو”ورئيس الاتحاد الدولي لحماية المصنفات النباتية، وعضو لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي، تم تكليفه للنهوض بأعباء هذا المنصب قبل عيد الفداء بعدة أيام، من قِبْل الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد العام لقوات الشعب المسلحة، ورئيس المجلس السيادي، ولعل من المهم جداً أن نُلْمِح إلى أن السيد ادريس، قد سعى إلى هذا المنصب، ورغب فيه، وأن نفسه قد اتصلت بما تفضلت بذكره، وقد استعذبت هذه النفس المشرئبة، تلك الحياة التي كلها حركة، وكلها أضواء وساغتها، وساغتها إلى غير حد، كما يقول الدكتور طه حسين، فالسيد ادريس الذي تنتظره عوادي الحروب، وجرائر الفوضى، قد استبد به هوى هذا المنصب الغلاب، ودفعه لأن يرى الحياة بدونه جحيماً لا يطاق، فجاهر بهذه النزعة الجامحة التي تجتاحه في عام 2010م، في عهد الرئيس البشير، وكان ينتظر أن يجادل ويناظر، وأن يقنع ويقتنع به الناس، وأن يدعوهم على بصيرة، بأنه الأحق والأجدر بأصواتهم حتى يفوز في تلك الانتخابات، ولكنه هان على الناس فلم يعبأوا به، أو يكترثوا له، أو أن “البشير” قد ضيق عليه فيها، كما ضيق على كثرة الشعب في الحقوق والحريات، وطائفة البشر، التي نعلم أنها تتوجس ممن يسعى لأن يتولى الاشراف على تدبير أمورها، تظن وتسرف في الظن، أن هذا الشخص الذي يهفو إلى هذه المناصب الرفيعة، له قطعاً مآرب، ومنافع، يريد أن يحققها من خلال تقلده لهذه المناصب، والسيد ادريس الذي لا يعرف له اتنماء حزبي، كما ليس لديه من المال أكداساً مكدسة ينفق منها بغير حساب، لم يتبوأ في مضمار السياسة أرفع مكانة، فالسودانيين لم يهتفوا له إلا مرة واحدة، وهي حينما جدّ في جنيف، لأن ينهي وتيرة الخلاف بين السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق، وبين صهره الدكتور حسن عبدالله الترابي زعيم التيار الإسلامي، الذي لا نحتاج إلى دفاع ولا نضال، لأن نزعم بأن هذا الشيخ المجدد، قد تصدى “لزمرة البشير” حينما سلكت طريقها المعوج، ومن المحقق الذي لا شك فيه، أن “السيدين” لم يسرفا في اطالة هذا الصلح، فقد مضت مسيرتهما مندفعة متهجمة، ولكنها على كل حال لم تتوخى الجهالة، أو تكابد النزق.

والسيد كامل ادريس، الذي لا نقرظه بنبوغ، أو ندمغه بعبقرية، قد نال تكليفه استحسان الأمم المتحدة، والمنظمات العالمية، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، فهذه المنظمات، والهيئات، تتطلع لأن يضخ الرجل تياراً زاخراً لنهر السياسة الراكد في السودان، وأن يضع الحلول الناجعة لتحقيق السلام ويحكم صوغها، وأن يوفق في اختيار طاقم حكومته التي سوف يلقي عليهم دروساً، ويوجه إليهم أسئلة، ويجب أن تأتي أجوبتهم متوائمة مع علل وأوصاب السودان، ومتناغمة مع تطور العصر، ومسايرة لمستحدثاته، السيد كامل إدريس، وحكومة الكفاءات التي يود أن يختارها، أو يهم أن يختارها، والتي يجب أن يدقق في اختيارها، عليه وعلى هذه الناجمة المنتقاه، أن تقنع الجماعات التي تتدفق في الشر، وتتسكع في بيداء الضلال، بالبرهان الواضح، والدليل القاطع، أن نيل الحقوق لا يكون بالعنف وحده، أو الشدة وحدها، فالحقوق لا تؤخذ بالقوة، ولا بالكثرة، ولا بالوحشية، ولكنها تنال بالصوت الهادئ العميق الذي يؤيده الشعب وينصره، وينظر إلي صاحبه في حب، ويرمقه في لهفة، ويهش لسماعه في حفاوة، لأنه يحقق لهم أسباب العز، والكرامة، والاستقلال.

الحكومة المرتقبة التي سيشكلها السيد كامل ادريس، يجب أن تبحث عن دخائل هذه الهيجاء وأسرارها، وأن تتكلف الكثير من العناء حتى تخمدها، وأن تجتهد في رتق النسيج الاجتماعي حتى تكفكف عبرات غالية جادت بها أطياف مكوناته، وأن تبعث فيه شتى الغايات التي تميط عنه أرباب العمائم والسيوف،الفئات التي أزرت بمناقب هذا الشعب، وجعلته يتخلى عن سماحته الجمة، وخلقه النبيل، وعباراته العذبة، على السيد كامل ادريس، أن يقتصد في خياله، ويعتدل في آماله، حتى تأتي قراراته خالية من كل شائبة، بريئة من كل شبهة، وأن يعجل في تكوين “المجلس التشريعي” الذي ينظر في خططه ومشاريعه، فيحذف منها، ويضيف إليها، السيد كامل، مطالب أيضاً بأن يحيي المحكمة الدستورية من ركامها، وأن يوقف انتهاب ثرواتنا وآثارنا من كل عدو سعى لتفتيت وحدتنا، نريد من حكومة السيد كامل ادريس، التي لا تنتمي إلى حزب، ولا يعنيها أو يهمها تأييد حزب،أن تنهض بالتنمية من كبوتها، وأن ينأى بها من الظن والحدس، والتخمين، هذا الشعب يريد أن يجرد اقتصاده من هذا اللبوس القاتم الحزين، على حكومة التكنوقراط أن تبحث في دأب، سبل علاج هذا الاقتصاد، وعن وسائل نهضته، وعن أثر هذه النهضة في المجتمع.

هذه بعض التحديات التي يجب أن يتصدى لها رئيس الوزراء الذي يشفق من الحال التي وصل إليها السودان أشد الاشفاق، فهو يعلم أن هناك فئات واسعة راضية عن هذه الحالة، مبتهجة لها، حريصة على أن يمتد تتابعها، على السيد ادريس، أن يعلم أن أيسر ما يمكن أن يقدمه للحياة العامة، في بلد تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، هو أن تعبق حافتها بخمائل الأمن، وترفرف في عرصاتها عناقيد السلام، على السيد كامل ادريس، أن يزيل فسيفساء الوغى من على الجدر والمدن والحنايا، وأن يجعل للسودان في المحافل الدولية شخصية قوية ورأي مستقل.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.