مهدي داود الخليفة
في بلادٍ تنهشها الحروب وتخونها النخب، تُولد بين أنقاض الخراب قامات نادرة، تُشبه الجبال في ثباتها، والأنهار في عطائها، والسماء في صفائها. هناك رجال إذا مرّوا بالتاريخ تركوا أثرًا لا يُمحى، ليس بما ملكوا من سلطة، بل بما حملوا من ضمير حيّ، وبما سكبوا من نور في عتمة الطريق.
ومن بين هذه القامات يسطع اسم الدكتور ألدّو أجو دينق، رجلٌ لم يكن سياسيًا عابرًا، بل كان املا ضائعًا، ورئيسًا لم تُنصفه الأقدار. كان ألدّو أجو دينق شخصية استثنائية، تميّزت بكاريزما نادرة جمعت بين الحكمة والبساطة، بين عمق الفكر ونقاء الروح. لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل كان إنسانًا من طراز فريد.
تجده في دواوين الحكومة مفاوضًا صلبًا، وفي الأسواق والقرى بين الناس مواطنًا بسيطًا.
لم يعرف الحواجز ولا البروتوكولات؛ بجلس على الأرض مع بسطاء شعبه، وياكل مما يأكلون، و يتحدث بلغتهم، فملك قلوبهم قبل أن يطلب ثقتهم.
كان يردد دائمًا أن “الزعامة ليست في المكاتب ولا في المؤتمرات، بل في نبض الشارع ومعاناة الناس”، وقد جسّد ذلك قولًا وفعلًا. لهذا أحبه السودانيون شمالًا وجنوبًا، بلا تفرقة ولا تصنيف.
ينتمي الدكتور ألدّو أجو دينق إلى قبيلة الدينكا، كبرى قبائل جنوب السودان، التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل تاريخ الجنوب سياسيًا وعسكريًا.
ومع ذلك، لم يكن ألدّو أسير قبيلته ولا رهين مصالحها الضيقة، بل ظل مؤمنًا بحلم سودانٍ موحّد، تتعانق فيه الثقافات وتتشارك فيه الأعراق في لوحة وطنية واحدة.
وربما كان هذا الإيمان العميق هو ما دفع الإمام الصادق المهدي، برؤيته الثاقبة، لأن يرى في ألدّو الرجل المناسب لتولي منصب الأمين العام لحزب الأمة القومي في التسعينات.
لم يكتفِ الإمام بالإعجاب الصامت، بل صارحه علنًا برغبته في الانضمام لحزب الامة و الترشح لمنصب الامين العام للحزب قائلاً: “رأيت فيك روحًا قومية، وفكرًا مستنيرًا، وقيادةً تصلح أن تكون جسرًا بين الشمال والجنوب.”
لم يشأ ألدّو أن يرفض طلب صديقه، لكنه كان يدرك أن سرعة الأحداث وتقلبات السياسة قد تسبق الأحلام.
ثم جاء الانفصال ليُجهض الفكرة قبل أن تبصر النور.
تخيّلوا لو أن القدر أنصف السودان، واستمر موحّدًا، وتحقق هذا السيناريو… كم كان يمكن أن يتغير من مجرى التاريخ؟ ربما كنا أمام تجربة سياسية فريدة، تقودها شخصية بحجم ألدّو أجو دينق، بما يحمل من حكمة، وعمق، وإخلاص نادر للوطن.
عندما سقط حلم الوحدة، وانفصل الجنوب، لم يسقط ألدّو أجو في مستنقع الكراهية، بل ظل مدافعًا عن روابط الجوار، وحريصًا على سلامة التعايش بين شعبي السودانين. ظل يسعى لحل النزاعات القبلية، وفتح مسارات التفاوض، وتذكير الساسة في جوبا بأن مسؤولية الخراب يتحملها الداخل قبل الخارج.
في مارس 2018، أطلق ألدّو أجو صرخة مدوية في وجه القيادات الجنوبية بعد فشل مفاوضات السلام في أديس أبابا، قائلاً: “لقد خنّا بلدنا وأنفسنا. نحن الآن سياسيون للناس الذين يموتون في البلاد. أصبحنا أضحوكة.”
لم يحمّل اللوم للترويكا ولا العقوبات الدولية، بل وجّهه إلى الضمير الوطني الغائب.
هذه الشجاعة في قول الحقيقة وسط الضجيج، هي ما جعلته ضميرًا حيًا في جسد سياسي عليل.
اليوم، جنوب السودان يواجه أزمات خانقة، كما تواجه البلد الام السودان جراحًا عميقة. وأمام هذا المشهد القاتم، يبرز السؤال: أليس من حق الجنوب أن يقوده رجل بصفاء وبحكمة، وبشجاعة ألدّو؟ إنها الفرصة التي لا تتكرر في حياة الشعوب.
وكما فقد السودان الموحد فرصة أن يكون ألدّو أجو دينق أمينًا عامًا لحزب الأمة، فلعل الجنوب لا يفقد فرصته في أن يراه قائدا يخرج البلاد من نفق الدم والفساد إلى فضاء السلام والاستقرار.
هناك رجال تظل آثارهم تسكن الأرض، وصوتهم يدوّي في ذاكرة الأمم كأغنية قديمة لا تموت.
ألدّو أجو دينق ليس مجرد اسم في سجل السياسة؛ هو حكاية وطنٍ كان يمكن أن يكون أجمل، لو لم تخنه الأقدار.
لقد خسر السودان الموحد ألدّو أمينًا عامًا لحزب الأمة، فهل يخسر الجنوب ألدّو رئيسًا؟
المصدر: صحيفة الراكوبة