منعم سليمان
برز في الأيام الماضية جدل واسع بين السودانيين، ولا سيما في أوساط بعض أنصار التيار الديمقراطي، وذلك عقب الانتصارات الميدانية التي حققتها قوات الدعم السريع ضد المليشيات والكتائب الجهادية في ولاية شمال كردفان، التابعة للحركة الإسلامية السودانية (الإخوان).
حيث تكبّد الجهاديون خسائر فادحة قُدِّرت بمئات القتلى، كان أبرزها مقتل مهند الفضل، نائب قائد كتيبة البراء بن مالك وقائدها الميداني الفعلي، وأخطر شخصية جهادية حربية تُقتل منذ اندلاع الحرب قبل عامين ونصف.
هذا التطور أعاد النقاش وسط التيار الديمقراطي: بين الشكوك والتوجس في وجود الدعم السريع، وبين دورها المتنامي مؤخراً في مواجهة بؤر التطرف الإسلامي التي تهدد الانتقال المدني الديمقراطي ومستقبل البلاد.
لا يجادل منصف في أن قوات الدعم السريع التي استهدفتها آلة الإسلاميين المتدثرة بزيّ الجيش، طمعاً في استرداد سلطة أطاحتها ثورة شعبية بعد ثلاثة عقود من الاستبداد ليست قوة منزهة عن الأخطاء أو بريئة من التشوهات والعيوب. كما لا يتوهم عاقل أنّها تسعى لتكريس واقع جيش موازٍ، أو أن السودانيين قد يقبلون ازدواجية البندقية والسيادة في وطن واحد.
والدليل على ذلك أنها مضت في تنفيذ الترتيبات العسكرية التي نصّ عليها الاتفاق الإطاري مع القوى المدنية، والذي كان يقضي بدمجها داخل الجيش ليصبح مؤسسة وطنية مهنية واحدة بعقيدة قومية خالصة. وقد وقّع على الاتفاق في ديسمبر 2022 قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، كما وقّع عليه قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قبل أن ينقلب الأخير على الاتفاق تحت ضغط الإسلاميين الذين يسيطرون على مفاصل جيشه، ومن ثم عرقلوا مشروع توحيد الجيش الذي كان سيقوّض نفوذهم، فأطلقوا شرارة الحرب في إبريل 2023.
ولا ينكر إلا مكابر أن قوات الدعم السريع قد ارتكبت انتهاكات مثلها مثل بقية أطراف الحرب لكن الانتهاكات هي الوجه القاتم لكل صراع مسلح، ولا يمكن وقفها إلا بوقف القتال. وهنا يبرز السؤال الجوهري: من يصرّ على استمرار الحرب؟ الجواب واضح: إنهم الإسلاميون الذين صادروا قرار الجيش، وأداروا ظهورهم لكل منابر السلام، من جدة وجنيف وحتى اتفاق المنامة الذي كان كفيلاً بإنهاء الحرب في بداياتها.
ومع ذلك، فإن الإنصاف يقتضي الاعتراف بالدور البالغ الأهمية الذي اضطلعت به قوات الدعم السريع في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة. هذه التنظيمات التي نشأت في فراغ الدولة، وتغذّت من شبكات الإسلام السياسي العابرة للحدود، ما كان لها أن تترسخ لولا اختطافها لمفاصل القرار العسكري، وما تلقته من أموال وسلاح ودعم تقني متدفق من دول تمتد من إفريقيا إلى الخليج العربي، وصولاً إلى تركيا وإيران. وفي هذا المشهد شديد التعقيد، تحوّلت عمليات الدعم السريع إلى عنصر حاسم في مكافحة خطر هذه الجماعات، بجهود تتجاوز أثرها الداخل السوداني لتنعكس استراتيجياً على كامل الإقليم.
ومن أبرز الأمثلة ما وقع مؤخراً غرب مدينة الأبيض، حيث دارت معركة ضارية تكبّدت فيها المليشيات الجهادية خسائر جسيمة، وفقدت في معركة أم صميمة وحدها أكثر من 830 قتيلاً، فيما بلغت خسائرها في معارك شمال كردفان من النهود إلى الخوي والدبيبات نحو ألفي عنصر وفق تقديرات ميدانية. وهذه الأرقام لا تعبّر عن نزيف بشري داخل هذه الجماعات فحسب، بل عن تصدّع تنظيمي يصعب ترميمه.
ولأنّ الإرهاب لا يعرف الحدود، فإن هذه المليشيات، سودانية المنشأ، تمدّ أذرعها نحو الجوار بتهريب السلاح وتجنيد المقاتلين وتصدير الفكر المتطرف. ومن هنا، فإن تفكيكها على يد قوات الدعم السريع يمثّل إسهاماً مباشراً في تقليص خطر الإرهاب الإقليمي، وفي منع السودان من العودة كمنصة للتطرف والإرهاب مرة أخرى. والأهم أنها بذلك تساهم في إزالة الخطر الداخلي الذي يقف حجر عثرة أمام التحول المدني الديمقراطي.
وعليه، فإن قراءة دور الدعم السريع لا ينبغي أن تنحصر في سجالات الداخل أو في بروباغندا الإسلاميين، بل في إطار أوسع: إطار صراع مع حركات الإسلام السياسي التي تُعد من أكبر الأخطار على استقرار المنطقة والعالم. والحركة الإسلامية السودانية، على وجه الخصوص، تُعد من أخطرها، إذ إنها أول حركة في التاريخ الحديث تحكم دولة سنية لثلاثة عقود، حيث حكمت البلاد وحوّلتها إلى ملاذ لشبكات الإرهاب العالمي، من بن لادن وكارلوس إلى الشباب الصومالية وبوكو حرام، وما زالت تراهن على الحرب سبيلاً للعودة إلى السلطة!
الحقيقة التي يعرفها الديمقراطيون السودانيون، وينبغي أن يواجهها الجميع إقليميون ودوليون هي أن هذه الحرب ليست صراعاً محضاً على السلطة، بل مواجهة أعمق مع مشروع أيديولوجي معادٍ للديمقراطية، تقوده حركة إسلامية مسلحة لها كتائب ومليشيات جهادية وارتباطات عابرة للحدود. وفي قلب هذه المواجهة تقف قوات الدعم السريع بكل ما لها وما عليها لاعباً أساسياً في تحجيم الخطر ومنع السودان من التحول مجدداً إلى عاصمة للإرهاب.
ومن ثمّ، فإن تقييم أدوار الدعم السريع لا بد أن يتجاوز اعتبارات اللحظة الراهنة التي تعكس نتائج الحرب لا أسبابها، ليندرج في منظور أوسع يستحضر الاستدامة، ويضع المستقبل في صدارة الأولويات، حيث تُبنى آمال الشعوب على السلام والاستقرار والتنمية، لا على ركام الأيديولوجيا الدموية وفوهات البنادق.
العين الاخبارية
المصدر: صحيفة الراكوبة