الخليفة عبد الله: يا النور عنقرة الحبش ديل بجقمو
عبد الله علي إبراهيم
(مرت أمس 2 سبتمبر الذكرى 125 لمعركة كرري (1898). وفي هذه الذكرى أعيد نشر كلمة في دحض ذائعات عن الخليفة عبد الله، ممن كان يلقب بسيد الأجمعين، تضافر على الترويج لها بعض نافدي الصبر والمتمحلين وربما “داكين تاريخ” من الجماعة المعروفة بالصفوة. ولم تكن عينهم في إذاعتها على التاريخ بل على مكابدتهم الشقية لنظام الإنقاذ الذي أفرغهم من كل حيلة فقاتلوا ظلامه بظلامهم. فلو كان التاريخ مرادهم لما ارتكبوا بحق الخليفة ما يعرف ب”الحاضروية “presentism “. وهي التشفي من الحاضر بالماضي في عبارة عامية).
أزعجني علم تاريخي غير دقيق في تقويم خليفة الصديق ساد في عقودنا الأخيرة. فقد أصبح الخليفة مثلاً يضرب في ركوب الرأس العقائدي أو الهوس الديني الذي يبلد حس المرء السياسي ويجعله أسير أيدولوجيته لا يسمع ولا يرى. ووجد فيه بعض خصوم الإنقاذ الحاكم سابقة تاريخية ل “صناجة” الإنقاذ العقائدية التي يفسرون بها عزلة النظام السياسية وتطفل العالم علينا. وأنا غير معني بالإنقاذ هنا بالطبع. ولكن بدا لي أننا ربما احتجنا إلى مراجعة صورتنا عن الخليفة كعقائدي مهووس.
فمما يعاب على الخليفة عبد الله أنه استعلى على مساع الإمبراطور منليك الحبشي الذي عرض عليه تحالفاً “أفريقياً” ضد القوى الأوربية الغازية. وكان من جاء بالعرض هو رأس منقشا رسول الإمبراطور. فقد طلب الرأس من خليفة الصديق أن يتحالفوا ضد قوى الإثم الأوربي و”الإنجليز الحمر” بالذات. ولم يقتنع الخليفة بذلك. ورد عائبو الخليفة تعنته إلى أصوليته الإسلامية. فقد أعمته كراهة الحبش المسيحيين دون أن يقف على الخطر الحق القادم وهو من المستعمرين الأوربيين لا ريب فيه. وواضح أن لائمي الخليفة أسقطوا ضيقهم بالأصولية الدينية، التي تفاقمت في عقودنا الأخيرة، على سياسة الخليفة تجاه الحبشة. ولكنهم ربما ظلموا الخليفة. فهناك شواهد على أن الخليفة مال إلى عرض الحبش، بل أكرم وفادة رأس منقشا في أوائل 1889، وترخص في مأكل ومشرب ضيافتهم. فقدموا لهم لحم الخنزير وبنت الحان حتى يفكوا عقدة لسانهم كما قال توماس باكنهام مؤلف “التكالب على أفريقيا” المشهور.
ولكن هناك ما هو أهم من هذا في دفع العيب عن الخليفة في تواثقه مع منليك. فقد اختلف المؤرخون حول جدية منليك في عرضه على الخليفة عبد الله التحالف ضد الغزاة الأوربيين. وكانت مجلة “التاريخ الأفريقي” المشهورة ساحة لحوار حول هذه المسألة في النصف الأول من الستينات بين الدكتور ج ن ساندرسن، استاذ التاريخ بجامعة الخرطوم والمختص بتاريخ صراع القوى الأوربية في أعالي النيل، والدكتور هارولد ماركوس أستاذ التاريخ بجامعة ولاية متشغان والمختص في تاريخ أثيوبيا. وكان من رأي ساندرسن أن منليك كان صادقاً في عرضه للتحالف مع الخليفة لصد الغزاة الأوربيين. وله في ذلك أدلة يضيق بها المجال هنا بالطبع. ويبدو أن كتابنا ورثوا عن ساندرسن هذا الرأي الذي يبدو فيه الخليفة سلبياً تجاه تودد منليك، أو سافر العداء له. وليس هذا بمستغرب فقد كان ساندرسن بيننا وتلقينا معارف التاريخ عنه.
ولكن لماركوس رأياً آخر وهو أن منليك لم يكن يضمر الصدق في عرضه الخليفة. فقد أضحت سياسته قائمة على “التقية” منذ نصره العظيم على أيطاليا في 1896 وتوحيده للحبشة. ومفاد تلك السياسة أن يتقي القوى الأوربية ذات الأطماع في شمال شرق أفريقيا ومنابع النيل كفرنسا وانجلترا ويستثمر خلافاتها، وألا يصدر عنه ما يورطه تحت طائلة مساءلة وعقاب. ورتب سياسته نحو الخليفة عبد الله على هذا النهج. فقد كان يريد له أن يكون خصماً لبريطانيا الغازية ينشغل بها عنه وينصرف بذلك عن المواضع المتنازع عليها بينهما بشرق السودان وغرب الحبشة. وكان شاغل منليك أن ينأ بالحبشة عن أطماع أوربا بضرب الأوربيين وغيرهم واحدهم بالآخر.
ومما يدل على أن منليك لم يقصد بالحلف الأفريقي ضد الاستعمار الأوربي سوى مضمضة لفظية أنه لم يقدم للخليفة عرضاً معلوماً ذا التزامات برغم إلحافه على عقد الحلف المعلوم مع الخليفة. بل ربما علم الخليفة باتفاق منليك مع بريطانيا في 14 مايو 1897. وهو اتفاق وقعه الإمبراطور مع رنيل رود أكبر معاوني لورد كرومر في مصر بعد أن أزعج بريطانيا التقارب الحبشي السوداني المزعوم. وكانت أول شواغل بريطانيا في الاتفاقية أن يلتزم منليك بوقف تسرب السلاح عن طريق الحبشة للسودان ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ووقعت لمنليك منافع من هذه الاتفاقية مثل إطلاق يده في تملك أرض (13500 ميلاً مربعاً) تتبع الصومال البريطاني، وأن تكف بريطانيا عن جمركة ما تستورده الحكومة الأثيوبية من بضائع عبر ميناء زيلع. بل ربما كان تودد الخليفة إلى منليك هو أيضاً نوع من “التقية” يريد به تحييده حتى لا ينشغل بغير ملاقاة حملة كتشنر. بل تنازل الخليفة عن منطقة بني شنقول لمنليك لأنها كانت الموضع السوداني الذي طمع فيه منليك طمعاً عظيماً دون المواضع المتنازع عليها جميعاً.
قال مؤرخ بريطاني مميز عن الدكتور الترابي حين تكاثرت الكتابات السالبة عنه في التسعينات: “سداد الكاتب ليس في كراهية الترابي بل في كراهيته صاح”. وكان يعني أن يحسن نقاده نقده بالاطلاع الواسع والنهج العلمي. ويستحق الخليفة، على ضوء ما تقدم من معارف عن علاقته مع منليك غائبة عن الكثيرين منا، أن كرهناه أن نكرهه . . . صاح.
المصدر: صحيفة التغيير