عبدالمنعم النور

لم يكن مقال الفريق عبدالفتاح البرهان في صحيفة (وول ستريت جورنال) مجرد قراءة سياسية للأزمة السودانية، بل محاولة ‏واضحة لتصحيح صورته أمام العالم، وتنظيف سجل مثقل بالانتهاكات التي امتدت لعقود. المقال بدا كأنه إعادة إنتاج لخطاب ‏يريد صاحبه أن يختصر الحقيقة في سطر واحد: أن الحرب الحالية اندلعت؛ لأن قوات الدعم السريع “تمرّدت على الدولة”. ‏لكنه يتجاهل عمدًا التاريخ الذي صنعه بيده، والحقائق التي عاشها أهل السودان في دارفور منذ عام 2003، وهي الحقائق ‏التي لا يمكن لأي مقال أن يمحوها.‎

فالبرهان، الذي يكتب اليوم بلغة المنتصر الأخلاقي المدافع عن الدولة، هو نفسه الضابط الذي عمل في عمق دارفور خلال ‏سنوات الإبادة الجماعية، وهو نفسه الذي سمّى نفسه يومًا “رب الفور” في إقليمٍ مزقته العمليات العسكرية التي أشرفت عليها ‏القوات المسلحة والجنجويد معًا. وحين يقول في مقاله إن قوات الدعم السريع “نشأت كميليشيا مستقلة، وتطورت بعيدًا عن ‏الدولة”، فإنه يتعمّد القفز فوق دوره الشخصي في تكوين هذه القوة، وفوق الوثائق التي تثبت أن الجنجويد كانوا يتحركون ‏بأوامر عسكرية مباشرة من قيادات المنطقة، وفي مقدمتهم عبدالفتاح البرهان. كانت تلك السنوات مرحلة مفصلية أسست لكل ‏ما يجري اليوم، حين انفتحت أبواب دارفور للنار والعنف والتطهير، وراح ضحيتها نحو 300 ألف إنسان بحسب تقديرات ‏الأمم المتحدة.‎

والحديث عن جذور الحرب لا يمكن أن يُختصر في أبريل 2023 كما فعل البرهان، لأن جذورها تمتد إلى بدايات الألفية ‏الثالثة، حين واجه نظام الحركة الإسلامية مطالب أهل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق بالحديد والنار، فقصفت القرى ‏بالطائرات، وأحرقت المزارع، ودمرت آبار المياه، وارتكبت جرائم إبادة جماعية موثقة لدى الأمم المتحدة، راح ضحيتها ‏نحو ‏‎300 ‎ألف قتيل وأكثر من ‏‎2.5 ‎مليون مشرد حسب تقديرات 2008. في تلك السنوات، كان البرهان أعلى مسؤول ‏عسكري في المنطقة، وكان يشرف على العمليات التي نفذتها القوات النظامية والجنجويد معًا، وهي المليشيات نفسها التي ‏يتنصل منها اليوم، ويصفها بأنها “قوة متمردة”.‎

لكن أحد أهم الأسباب التي ولّدت حميدتي وبنت قوته، هو انهيار المؤسسة العسكرية نفسها؛ بسبب سياسات النظام الذي كان ‏البرهان أحد أعمدته. فمع اشتعال حروب الأطراف رفض أبناء دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق الالتحاق بالجيش، حتى ‏لا يشاركوا في قتل ذويهم، فانخفض التجنيد إلى مستويات خطيرة. ولتعويض النقص الحاد في العنصر البشري، لجأت الدولة ‏إلى خيارها الأخطر: الاعتماد على مليشيات الجنجويد بقيادة الشاب محمد حمدان دقلو. وهنا لعب البرهان دورًا محوريًا، فقد ‏كانت العلاقة بينه وبين قادة الجنجويد علاقة مباشرة، وكان هو من ينسق معهم العمليات على الأرض، الأمر الذي مكّن ‏حميدتي مبكرًا من فهم توازنات القوة داخل الدولة.‎

ومن هنا لم يهبط حميدتي من السماء، ولا نشأ “خارج الدولة” كما يريد البرهان أن يوهم القرّاء، بل صعد من صميم هندسة ‏أمنية شارك فيها البرهان وصلاح قوش وعمر البشير. وفي 2013، وبمبادرة من جهاز الأمن، وُلد الاسم الجديد: قوات الدعم ‏السريع، قوة تُصنَّف على الورق كقوة تتبع الدولة، لكنها في الواقع جهازٌ موازٍ بُني حول الولاء الشخصي. وبعد عام واحد ‏فقط، تم منح هذه القوات شرعية قانونية دستورية، وبدأت الأموال تتدفق على حميدتي لبناء قوة قتالية ضخمة قوامها أكثر من ‏‎150 ‎ألف مقاتل. كانت تلك القوة بالنسبة للبشير “أفضل قرار اتخذه في حياته”، كما قال بنفسه، لأنها وفرت له جيشًا بديلًا ‏بالولاء المطلق.‎

ولم يكن البرهان بعيدًا عن هذا البناء، بل كان شريكًا أصيلًا فيه؛ فهو الذي نسق مع الجنجويد في دارفور، وهو الذي شارك ‏في الاتفاق الذي تم بين حميدتي وصلاح قوش، وهو الذي صعد إلى موقع القيادة مستفيدًا من القوة التي خلقها هذا التحالف ‏العسكري المزدوج.‎

صعود حميدتي إلى قمة السلطة لم يكن صدفة، ولم يكن معجزة لشخص محدود التعليم، بل كان نتيجة طبيعية لفراغ كامل في ‏مؤسسات الدولة صنعته الحركة الإسلامية عن عمد. فقد أُقصي كبار الضباط، وأحيل الأكفاء للصالح العام، وحل محلهم أهل ‏الولاء، بينما تكدست ثروات الدولة في حسابات ضيقة، وتلاشت مؤسسات الرقابة، وانهارت القيم المهنية داخل الجيش ‏والأمن، ووجدتُ الساحة مهيأة لرجل يملك السلاح والرجال والذهب.‎

وعندما جاءت ثورة ديسمبر، لم يعد ممكناً تجاهل حميدتي. شاركت قواته في فض اعتصام القيادة العامة في جريمة هزت ‏الضمير العالمي، ثم أصبح الرجل نائبًا لرئيس مجلس السيادة، شريكًا في كل الملفات، وممثلًا للدولة في الإقليم. ومع الزمن ‏أصبح أكثر بروزًا من البرهان نفسه، يمتلك شركات، وحدود، وذهب، وإعلامًا، وعلاقات دولية مفتوحة، الأمر الذي أثار ‏غضب المؤسسة العسكرية التي رأت في صعوده تهديدًا وجوديًا.‎

ومع ذلك، عندما انهار نظام البشير، لم يكن الجيش بقيادة البرهان بعيدًا عن اللعبة، بل شارك حميدتي في إسقاط البشير ‏نفسه، ووقع معه على كل الاتفاقات التي جاءت بعد الثورة. لقد كانت العلاقة بينهما شراكة كاملة، قبل أن تتحول كما هو ‏متوقع في الأنظمة غير المؤسسية إلى صراع دموي على السلطة.‎

لهذا فإن محاولة البرهان اليوم تصوير الحرب كـ“تمرّد ميليشيا” تتجاهل جوهر الحقيقة:  الطرفان ولدا من النظام نفسه، ‏والاثنان شريكان في صناعة القوى التي تدمّر السودان اليوم.‎

ما يسميه البرهان “خيانة الدعم السريع” هو في الحقيقة نتيجة طبيعية لسياسات هندسها بنفسه حين كان يعمل في دارفور، ثم ‏حين أصبح قائدًا عامًا بعد الثورة، ثم حين انقلب على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر 2021، وأعاد البلاد إلى الحكم ‏العسكري، ودفن آخر أمل في انتقال مدني كان يمكن أن يمنع الحرب.‎

ورغم أن البرهان حاول في مقاله أن يقدم نفسه كقائد حرّ القرار، إلا أن الواقع طوال السنوات الماضية أثبت أنه أسير كامل ‏لمنظومة الحركة الإسلاموية التي أعادت إنتاج نفسها داخل مؤسسات الدولة بعد الثورة. فالبرهان لم يكن يومًا صاحب قرار ‏مستقل، بل كان يتحرك وفق ما ترسمه له مراكز القوى داخل هذا التنظيم، ويعود إليها في كل خطوة قبل الإقدام عليها، من ‏انقلاب 25 أكتوبر إلى شكل إدارة الحرب. وهذه الحقيقة الجوهرية التي يعرفها السودانيون، ويتناقلها الداخل والخارج، لم ‏يجرؤ البرهان على ذكرها في مقاله، لأنها تكشف حدود دوره، وأنه لا يملك زمام أمره كما أراد أن يصوّر للعالم.‎

وفي النهاية.. السودان لا يحتاج إلى روايات تبرئة يكتبها البرهان في الصحف الغربية، بل يحتاج إلى مواجهة الحقيقة، أن ‏الحرب الحالية هي حصاد مرّ لمنظومة كاملة شارك البرهان وحميدتي معًا في بنائها، وأن السودان لن يخرج من النفق ما لم ‏يدرك العالم أن أصل الكارثة بدأ في دارفور عام 2003، حين كانت القيادة العسكرية، وعلى رأسها البرهان تشرف على ‏الجنجويد الذين صاروا لاحقًا دعمًا سريعًا، قبل أن ينقلب الابن على الأب، وتشتعل البلاد في صراع لم يكن يومًا صراعًا بين ‏دولة وميليشيا، بل بين قوتين خرجتا من الرحم نفسه.‎

من المفارقة أن يختم عبدالفتاح البرهان مقاله بعبارة “السلام لا يُبنى على الأوهام”، بينما أكبر الأوهام هي الرواية التي قدّمها ‏في مقاله نفسه، متجاهلًا دوره المركزي في صناعة الجنجويد، وتأسيس الدعم السريع، وإشعال الصراع الذي يريد اليوم أن ‏يحمّل تبعاته للآخرين. الحقيقة التي يتحدث عنها لا يمكن أن تكون حليفًا للسودان إلا إذا شملته هو أولًا، واعترف بمسؤوليته ‏التاريخية في ما جرى، لأن السلام لا يقوم على إخفاء الماضي، بل على مواجهته.‎

[email protected]

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.