الحرية والتغيير واللقاء في القاهرة
النور حمد
جاء في تصريحٍ صحفيٍّ جرى نشرُه في موقع قوى الحرية والتغيير، أمس الثلاثاء 14 نوفمبر 2013، أن المكتب التنفيذي لقوى الحرية والتغيير وكادرها القيادي سوف يعقدون اجتماعا مهمًّا في العاصمة المصرية، القاهرة، في الفترة ما بين 15 و18 نوفمبر الجاري، وقد بدأت جلسات هذا اللقاء اليوم الأربعاء، بالفعل. ورد في هذا التصريح الصحفي أن قوى الحرية والتغيير تتقدم: “بكل الشكر والتقدير والامتنان لجمهورية مصر العربية؛ قيادةً وحكومةً وشعبًا على عقد الاجتماع في قاهرة المعز، وتسهيل وصول المشاركين وكل الإجراءات ذات الصلة”. ولا أخفي أن هذه العبارة التي تقول: “تسهيل وصول المشاركين وكل الاجراءات ذات الصلة”، قد أزعجتني كثيرا، لكونها مكونة من جزئين. جزء يقول: “تسهيل وصول المشاركين”. ويقول الجزء الآخر: “وكل الاجراءات ذات الصلة”. فهل تقوم مصر في مثل هذه الحالة بشيء أكثر من الموافقة على عقد اللقاء، ومنح تاشيرات الدخول؟ وهل يحتاج السودانيون، أصلاً، إلى تأشيرات دخول لمصر في ظل اتفاقية الحريات الأربع، لولا “اللولوة” المصرية المعهودة؟
قبل كتابة هذا المقال قمتُ بنشر تغريدةٍ على فيسبوك وعلى تطبيق x (تويتر سابقًا)، تعليقًا على التصريح الصحفي واختيار القاهرة مكانًا للقاء. وقرأت على أثر نشر هاتين التغريدتين بعض التعليقات؛ منها ما يرى صواب التغريدتين، ومنها ما يرى مجانفتهما للموضوعية، والاتسام بالاستعجال. وعلى أثر ذلك قررت أن أكتب مقالاً مطولاً، بعض الشيء، أناقش فيه بصورةٍ موسعةٍ نسبيًا، فكرة اختيار القاهرة مكانًا لعقد اللقاء، ودلالاتها. وهو أمرٌ لم تكن مساحةُ التغريدتين لتسمحَ به، بحكمِ تحديدِ عدد الكلمات. وأبدأ فأقول إن تاريخ مصر في ابتزاز السياسيين السودانيين واستخدامهم أدواتٍ لخدمة الأجندة المصرية تاريخٌ حافل. ومن ذلك، على سبيل المثال، فقط، حادثة ابتزاز القطب الاتحادي خضر حمد. فقد أرسل خضر حمد مع عامل فندق مصري في الفندق الذي أقام فيه، قصيدةً ليجري خطها بخط اليد، لدى خطاطٍ محترفٍ، استجابةً لطلب من صديقٍ له مقيمٌ بالسودان. عرفت الاستخبارات المصرية بذلك، إذ كانت عيونُها مبثوثةً حوله. وكان محتوى تلك القصيدة الوطنية، مما لا ترضى عنه مصر. فقامت السلطات المصرية بممارسة ضغطٍ نفسيٍّ كبير على السيد، خضر حمد. وكان ذلك قبل فترةٍ قليلةٍ من مفاوضات مياه النيل، وقد كان السيد، خضر حمد أحد الذين سيضمهم الوفد المفاوض. أما في حاضرنا القائم الآن، فإن الذي جرى لمبارك أردول في مصر، وهو مهندس اعتصام الموز، ومُلبي دعوة مصر لعقد لقاءٍ القاهرة الضرار، لجماعة الموز، ببعيدٍ عن الأذهان. ومثل هذا كثيرٌ، ولا مجال للاستطراد فيه هنا.
لا أعتقد أن سياسيًّا سودانيًا وطنيًا يمكن أن يتجاهل احتلال مصر لأراضيه لما يقارب الثلاثين عامًا، بل وتمصيرها، ثم يذهب في ظل الالتباس القائم في العلاقات السودانية المصرية، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ بلادنا، للإقامة في مصر، أو حتى اختيار مصر مكانًا لعقد لقاءٍ لحلحلة مشاكل السودان. كيف يذهب السياسي السوداني القيادي للإقامة في مصر، أو يعقد لقاءً سياسيًا في مصر، بعد أن وضح، بجلاءٍ، لا لبسَ فيه، عبر ما يزيد على أربعة أعوام، أين تقف مصر من مشروع الثورة الجماهيرية السودانية؟ فمصر ما تركت بابًا لوأد ثورتنا هذه ونسف شعاراتها، إلا وطرقته. فإقامة السياسي القيادي السوداني باختياره في مصر عقب احتلال حلايب وشلاتين يضعه، بالضرورة، في خانة قلة الاكتراث بقضايا الوطن الجوهرية المصيرية كاحتلال الأرض واستلحاقها؛ جغرافيًا، وإدرايًا، وسياسيًا، وثقافيا. كما تضع الإقامة في مصر، السياسي السوداني، وبالضرورة، تحت أحابيل مخابراتها وضغوطها وصنوف ابتزازاتها التي لا تنتهي. فالوطنية الحقة، تقتضي أن يقف السياسي موقفًا واحدًا صارمًا ضد من يحتل أراضي بلده، وبلا أدنى مساومةٍ، أو تَذَرُّعٍ بأي ذريعةٍ. دع عنك أن يقوم بتقديم الشكر والامتنان لمصر لتسهيلاتها لمجرد أنها قد سمحت له بإقامة لقاء في أراضيها، وتقديم ذلك الشكر في عباراتٍ غائمةٍ ملتبسة.
ربما يرى البعض أنني أُحمِّل الأمورَ أكثرِ مما تحتمل، وهذا من حقُّهم بطبيعة الحال. لكنِّي، مع احترامي لأي وجهة نظرٍ سارت في هذا المنحى، أحتفظ لنفسي بحق البقاء على رأيي. وهو أن هذا الاجتماع، اختيارٌ غير سليم وضار، وهو أكثرُ ضررًا في هذا الوقت بالذات. في تقديري أن تداعيات هذا اللقاء ن تلبث أن تعصف بقدرٍ من المقادير، بوحدة القوى السياسية والمدنية، وبوحدةِ الطيفِ الواسعِ لقوى الثورة المختلفة. فقد فرغت هذه القوى، قبل أسبوعين ونيف، وبعد جهدٍ جهيدٍ، من إنشاءِ تنسيقيةٍ “تقدم”، في العاصمةِ الإثيوبية أديس أبابا. ولذلك، فإن عقدَ إجتماعٍ لقوى الحرية والتغيير، وهي القوة التي أدارت الفترة الانتقالية المغدورة من جانب الإسلامويين، ومصر، وحلفائهما من “جماعة الموز”، له دلالته التي لا تخفى على أقل الناس اشتغالاً بالسياسة. ولا يمكن لأي أسبابٍ لوجستية أو غيرها من الأسباب اللاسياسية، أن تخفى الدلالة السياسية الضمنية لاختيار مصر مكانًا لهذا الاجتماع. أو، تخفي الرسالة المتضمنة في قبول مصر قيام هذا الاجتماع في عاصمتها. كما لا تُخفي، أيضًا، ما في قيام هذا الاجتماع في القاهرة من محاولةٍ من جانب مصر لإثبات أن السودانيين، مهما شرَّقوا أو غرَّبوا، فإن مصيرهم، في النهاية، العودة إلى الحظيرة المصرية. يضافُ إلى كل ذلك، فهناك، أيضًا، غرض مصري ضمني في الإيحاء الذي تود مصر أن تبثه للقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الشأن السوداني، وهو أن إِبعاد مصرَ من منبرِ جده، ومن إدارة الشأن السوداني، دونه خرط القتاد. وسيكون لهذا اللقاء، في تقديري، انعكاسه السلبي وسط المسيرين المنخرطين في منبر جدة.
مصر وجهودها في وأد الثورة
لا أدري! كيف تناست قوى الحرية التغيير أن مذبحة فض الاعتصام من أمام القيادة العامة، جرت بمباركةٍ مصريٍّة. وكيف تناست قوى الحرية التغيير أن إغلاق الناظر تِرِك لميناء بورتسودان وللطريق القومي الرابط بين الميناء وبقية البلاد، كان جزءًا من مخطَّطٍ مشتركٍ مصري/إسلاموي لتعويق الثورة. وأن قدوم محمد طاهر آيلا إلى بورتسودان من مصر، وقف وراءه مخططٌ مصريٌّ، مُسترشدٍ بنصائحِ صلاح قوش، الذي سلَّم معلومات السودان الاستخباراتية لمصر، كما سلَّم قبله المدعو، طه عثمان الحسين، المعلومات الاستخباراتية السودانية للملكة العربية السعودية. علاوةً على ما تقدَّم، كيف نسيت قوى الحرية والتغيير أن هلهلةَ حكومةِ عبد الله حمدوك قد جرت بتنسيقٍ بين مصر والجيش الذي تسيطر عليه فلول المؤتمر الوطني والحركة الإسلاموية؟ وأن إنشاء “تحالف الموز”، الذي انخرط فيه حزب جعفر الميرغني أكبر أذرع مصر في السودان، والإسلاموي الشيخ الطيب الجد ود بدر، قد كان أحد أدوات الهلهلة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر 2021؟
لقد تعاظم الهجوم على عبد الله حمدوك من جانب مصر، لأنه أراد أن يكون القرار السياسي السوداني قرارًا مستقلًّا. وإني لأجزم أن مصر مستاءةٌ جدًا من حضور عبد الله حمدوك للقاء أديس أبابا، وخاصةً وضعه على رأس الهيئة القيادية لتحضيرية للمؤتمر التأسيسي. كرهت مصر عبد الله حمدوك، لأنه نجح عمليّاً في إعادة السودان إلى المجتمع الدولي، بعد سقوط ذكره في العالم لثلاثة عقود. وأهم مما تقدم، أن حمدوك أراد أن يكون السودان الجهة التي تضع القيمة المضافة على منتجاته النباتية والحيوانية. وهذا، بالتحديد، ما جعل مصر تعمل على إبعاده. وأهم من ذلك أن حمدوك كان خبيرًا دوليًّا وصاحب قامةٍ معرفيةٍ ومهنيةٍ رفيعةٍ. فهو يجد الكثير من الاحترام المستحق لشخصٍ مثله، على المستوى الدولي. فشخصية كشخصية عبد الله حمدوك سوف ترفع من أسهم السودان دوليًا، وستقود إلى استقرار السودان ونهضته بصورةٍ تجعل من السودان مركزًا لثقلٍ إقليميٍّ جديد، منلفتٍ من هيمنة دول الإقليم العربية، وعلى رأسها مصر، التي طالما رزح تحتها السودان، بسبب التبعية المتأصلة لمصر وسط سياسييه.
خلاصة الأمر، كان لمصر ما أرادت، بعد مسرحية “اعتصام الموز” السمجة. فقد جرى انقلاب البرهان وزمرته من العسكريين الواقعين في قبضة الحركة الإسلامية وحلفائهم من “جماعة الموز”، على حكومة حمدوك في 25 أكتوبر 2021. ومنذ ذلك الانقلاب المشؤوم لم تر بلادنا عافيةً أبدًا، إلى أن وصلت إلى هذه الحالة غير المسبوقة من الدمار الماحق والمرعب. تناست قيادات الحرية والتغيير كل هذا المسلسل المترابط الحلقات، وقامت بعقد اجتماعها هذا في القاهرة، مستهديةً، في نظري، بذرائعيةٍ لا تنسجم مع ما هو متوقعٌ من فصيلٍ مُهمٍّ من فصائل الثورة السودانية، التي لا تزال فصولها تتوالى.
باختصارٍ شديدٍ، بقيت مصر واقفةً ضد هذه الثورة منذ البداية. وهي، الآن، واقفةٌ ضدَّها، ولسوف تبقى واقفةً ضدها. فأطماع مصر في السودان، وأهداف هذه الثورة الفريدة، نقيضان لا يلتقيان، أبدا. دعت مصر “جماعة الموز” للاجتماع في القاهرة، لكنها اكتشفت وهنَهم وخواءَهم. وعرفت أنها استثمرت في هُلامٍ أصبح موضعًا للتندُّر والهزؤ، وسط السودانيين، فطفقت تبحث عن أداةٍ جديدةٍ وأساليبَ جديدةٍ لتحقيق هدفِها الذي أصبح منها قاب قوسين أو أدني. ظلت مصر، منذ الاستقلال، حريصةً على أن يكون السودانُ محكومًا بجنرالٍ يقهر لها شعبه بقوة السلاح، وبالقبضة الأمنية، تماما كما ظلت تفعل النخبة العسكرية المصرية. فتضمن مصر، من جانبها، ثباتَ عرشِ الجنرال السوداني، نظيرَ إطلاقِ يدِها في مواردِ السودانِ ومُقَدَّراته واختطافِ كاملِ سيادتِهِ على قراراتهِ السياسيةِ والاقتصادية. وقد عرفت مصر، عبر تجاربها في الترحيب بالأنظمة العسكرية في السودان، أن جنرالات السودان لا يريدون شيئًا سوى ثباتِ عروشِهم. فهم ما اكترثوا يوما لحالِ بلدِهم وحالِ شعبهم، ولا ساءهم تخلُّفُها وشظفُ عيشِ أهلهِا ومشقته. أفلا تكفي هذه الحرب المدمرة الجارية الآن، دليلاً دامغًا على هذه النوعية من الجنرالات منزوعي الروح والضمير، الذين لا تنفك مصر تحرص على أن يتولَّوْا أمر السودان؟
لقد باعد أداءُ قوى الحرية والتغيير، في الفترةِ الانتقاليةِ، بينها وبين جمهور الشارع، وأضعف وحدة الثوار. فقد ارتكبوا من الأخطاءِ ما أفقدهم ثقة الجمهور، خاصةً هرولتهم إلى تولي المناصب التنفيذية، بعد أن أعلنوا للشعب أنهم لن يتسنَّموا أي منصبٍ تنفيذي في الفترة الانتقالية. لقد أثبتوا للجمهور عبر نكوصهم عن وعدهم ذاك، أنهم لا يختلفون عن السياسيين التقليديين، المخضرمين، الذين لم ير الشعبُ منهم، منذ فجر الاستقلال، سوى التدافعِ بالمناكبِ على المناصب. لكننا، بعد أن قدَّمت قوى الحرية والتغيير نقدها الذاتي، لما جرى في الفترة الانتقالية المغدورة، فرحنا ورحبنا وأشدنا بمراجعاتها. غير أننا، فُجعنا فيها ونحن نراها الآن تنكٌصُ على عَقِبَيْهَا وتنقضُ غزلَها أنكاثا، وتضع نفسها طائعةً مختارةً في فخاخ المخابرات المصرية وشباكها. ولا تختلف النتيجة ما إذا كان ذلك الوقوع في فخاخ المخابرات المصرية، بقصدٍ، أو بحسن نية.
استثمار مصر للدمار الجاري
فشلت كل محاولات مصر في أن تجعل عبد الفتاح البرهان الحاكم بأمره في السودان، نيابةً عنها. فقد راهنت على قيادات الجيش السوداني لتقضي لها على الثورة وتمسك لها بأعنة الحكم في السودان. لكن، وضح لها ضعفُ البرهان وزمرته، وأنهم يلعبون على مختلف الحبال، وأنهم غير قادرين على السيطرة على كامل التراب السوداني. فالجيشُ المُؤْتَمِرُ بأمرِ الإسلامويين يوشك أن يفقدَ كامل الجزء الغربي من البلاد، المتمثِّل في دارفور وكردفان. ولربما تصل به أحوالُه السيئة وسماعُه لأوامر “اللايفاتية” الهُواة، أن يفقدَ، أيضًا، الوسطَ والشمالَ والشرقَ، لصالحِ قواتِ الدعمِ السريع. هذا الوضع الجديد الذي أفرزته الحرب وجاء على عكس رغبة الإسلاميين، وضع مصر قريبًا جدًا من تحقيق حلمها في تشظي السودان، ووقوع وسطه وشماله وشرقه في قبضتها؛ مباشرةً أو بالوكالة. الوضع القائم الآن يمثِّل تحقيقًا لنبوءة محمد حسنين هيكل التي بشر بها منذ عقود وهي أن السودان مصيره التقسيم.
في هذه اللحظة الفارقة، التي أخذت فيها فلول الإسلامويين المندحرة تنادي بدمج شمال ووسط وشرق السودان في الدولة المصرية، وتنتعش فيها الآمال المصرية بالتمدد في السودان، تذهب الحرية والتغيير لتعقد اجتماعها هناك. ويحدث هذا بعد أقل من ثلاثة أسابيع من ولادة جبهة “تقدم” في أديس أبابا! فهل يمكن حتى لمن لم يتجاوز فهمه ألف باء السياسة، أن يتجاهل الدلالات السياسية لقيام هذا الاجتماع في القاهرة؟
مصر دولةٌ ذاتُ أطماعٍ عظيمةٍ في السودان، وقد ذاقت بالفعل حلاوةَ أن تكون في السودان سلطةٌ خائرةٌ كسلطة الفريق البرهان. فقد نشطت مصر مؤخَّرًا في تشييد المصانع والمسالخ بالقرب من حدودها الجنوبية لإضفاء القيمة المضافة على المنتجات السودانية المنهوبة. وبما أن تقسيم السودان قد أضحى قريبًا جدًا من التحقق، فقد حانت الفرصة الذهبية لتهندس مصر هذه الأوضاع المأساوية لصالحها، وتعيد تشكيلَ المشهدَ السياسي بما يحقق هدفها القديم الذي ظلَّت تعمل من أجله منذ عهد محمد علي.
انعقاد اللقاء في القاهرة يعني، من وجهة نظري، منح المخابرات المصرية فرصة الاطلاع على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ مما يجري من مناقشات في هذا اللقاء. كما تتيح للاستخبارات المصرية، تحت مختلف الغطاءات، أن تجري مشاوراتٍ مع المؤتمرين، خاصة أولئك الذين جاءوا من الخارج. أما الموجودون في الداخل فإنهم أصلاً واقعين تحت سمع وبصر المخابرات المصرية، على مدار الساعة.
لقد سمعنا مرارًا قيادات قوى الحرية والتغيير تردد، أنهم على اتصالٍ بكل الأطراف؛ أي أنهم على اتصالٍ بالبرهان وبحميدتي. وكنا نظن أنهم واقفين على الحياد بينهما. لكن بهذه الخطوة، المتمثلة في الاجتماع في القاهرة، فقد مالت، من الناحية الرمزية على الأقل، قوى الحرية والتغيير إلى مصر، الواقفة أصلاً ضد الثورة والمحبِّذة لسلطة العسكر، والتي لم تألو جهدًا، منذ اندلاع الثورة، لكي تراهم ممسكين بالسلطة في السودان.
ذرائع اختيار المكان
ساذجٌ، في نظري، من يظن أن اختيارَ القاهرة لهذا الاجتماع هو محضُ اختيارٍ لمكانٍ، مَثَلُهُ مَثَلُ أيِّ مكانٍ آخر. هناك تَّذرُّعٌ بأنَّ هناك عددًا من قادة قوى الحرية والتغيير يقيمون في القاهرة، وأن هذا هو ما وقف وراء اختيارها مكانًا للاجتماع. أيضًا هناك من يقول إن مصر لا تسمح لمن يخرج من هؤلاء السياسيين بالعودة، مرة أخرى. وكلا هاتين الحجتين مردودتين، لسببين. الأول منها، أن اختيار القاهرة مكانًا لإقامة قادة الحرية والتغيير بعد النزوح الذي تسببت فيه الحرب، التي كانت مصر واحدةً من مسبباتها، عملٌ خاطئ في حدِّ ذاته، وموقفٌ لا يليق بقادة ثورة لهم مبادئ، ولهم حرصً على ألا يخضعوا لأي نوعٍ من الابتزاز. أما السبب الثاني فهو، أن منع السلطات المصرية للقادة السياسيين الذين يغادرون مصر، من العودة إليها عقب خروجهم، أو تعطيل إجراءات عودتهم، فهو في حد ذاته عملٌ ابتزازيٌّ من الدرجة الأولى. ولا ينبغي لقائدٍ سياسيِّ أن يختار مكانًا كهذا ليقيم فيه ويمارس منه عمله السياسي. فمصر بتعسفها في اجراءات خروج السياسيين السودانيين تريد أن تسجنهم وتسلبهم حريتهم لتتحكم فيهم. فهي لا تحبذ أن يتحركوا في الإقليم، حتى لا يصبحوا عرضةً للذهاب في وجهةٍ لا تريدها مصر. كما أن القاهرة يزعجها جدًّا أن ترى القوى السياسية السودانية مجتمعةً في أديس أبابا. وقد بلغني أن أحد المصريين الذين يعملون في جهاز الاستخبارات المصرية قال لبعض السودانيين: ليس من المقبول لدى مصر أن يستخدم السياسيون السودانيون مصر وكأنها “لكوندة”. وهو يعني أن الإقامة في مصر لها ثمنٌ سياسي، ينبغي أن يدفعه السياسي المقيم.
الهجمة المصرية الجديدة على الثورة
في تقديري، تُعدُّ مصر الآن العدَّةَ للقيام بهجمةٍ جديدةٍ على الثورة، وعلى وحدة الدولة السودانية. وهي تود أن تكون الضربة القاضية. وسوف تستثمر مصر هذه الهجمة الجديدة في هذا المناخ المأساوي المضطرب، مستغلةً لهفة الناس على إنهاء الحرب، ولو بتقسيم السودان لحفظ حالة الاستقرار الأمني النسبي، في الأقاليم التي لم تصلها الحرب بعد؛ في الوسط والشمال والشرق. في ظل هذا المناخ الضاغط، والمساعد بامتلائه بالالتباسات، لا أستبعد أن تدعو مصر إلى توافقٍ وطنيٍّ جديدٍ أوسع من “توافق الموز”، يمتد ليشمل قوى الثورة الحية، أو بعضها الذي يرضى بالاصطفاف مع الخط المصري الجديد. وسيشمل هذا التوافق، في تقديري، إبقاء الجيش في السلطة بصورةٍ من الصور. خاصةً أن الجيش وفلول الإسلامويين قد بلغوا درجةً من الانبطاح وطلب النجاة، أوصلتهم حد المطالبة بالاندماج والذوبان النهائي في الدولة المصرية. وعلينا أن نتذكر أن ما من خطوةٍ لحل المشكل السوداني إلا وقامت بإزائها خطوةٌ ضِرارٌ، من جانب مصر. مصر الآن على قيد أنملة من تحقيق حلمها التاريخي بالتوسع في السودان، وهي تضع في ذلك اللمسات الأخيرة. ومن لا يرى هذا واضحًا، وضوح الشمس، ليس جديرًا، في نظري، بممارسة العمل السياسي.
ربما يرى قادة الحرية والتغيير أنهم ينتهجون نهجًا عمليًا مرنًا لا يحبذُ المواقف المتصلبة. وأنهم يمارسون السياسة وفق الفهم الذي يرى أنها “فن الممكن”، وهذا من حقهم بطبيعة الحال. لكني أرى أن التعاطي مع مصر بالذات، وفق هذا التصور، في هذا الوقت بذات نهجٌ خاطيء. فمصر، كما سبق أن كررت مرارًا، هي المحتلة لأراضينا، الطامعة في التوسع فيها، والعاملة بجدٍّ على مسح ثورتنا، وقتل صوت الجماهير، وحصر تعاطيها فقط مع النخب العسكرية والسياسية، المتوافقة مع بعضها. من حق قادة الحرية والتغيير أن يفعلوا ما يريدون. لكن، أيضًا من حقنا أن ننبه إلى المزالق التاريخية كالذي نمر به الآن. يقيني أن لقاء القاهرة سيفعل فعله في تبديد الثقة وسط من بذلوا الجهد في تكوين جبهة “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية”، في أديس أبابا. وسيقود هذا، في تقديري، إلى إضعاف قوى الثورة، على نفس الصورة التي ضعفت بها، وتشرذمت، أثناء الفترة الانتقالية، بسبب بعض تصرفات قوى الحرية والتغيير.
المصدر: صحيفة التغيير