الحرية والتغيير في قطر: مروي أم المدينة الرياضية؟ «2 2»
الحرية والتغيير في قطر: مروي أم المدينة الرياضية؟ «2 2»
د. عبد الله علي إبراهيم
وفرت ندوات عقدتها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) (قحت) في دولة قطر فرصة بغير سابقة لعرض آراء مدروسة عن موقفها من الحرب التي تعركنا بثفالها في السودان. فعرضت على لسان بابكر فيصل، رئيس التجمع الاتحادي، وعمر الدقير، رئيس المؤتمر السوداني، والواثق البرير، الأمين العام لحزب الأمة، وطه عثمان، القيادي في تجمع المهنيين، دفوعات بوجه اتهامات لها بالتحريض على الحرب تأذن للمعلق مرجعاً في النظر لأطوار في الحرب لا يكون التحليل إلا به. كما واجهوا تهمة ممالاتهم للدعم السريع، بل الحلف معه، لتوقفهم عن إدانته على خروقه لأعراف الحرب. وأحسنوا عرض ما اتفق لهم في هذه الجهة.
أخشى ألا يكون مضرب مثل بابكر بانحلال الجيش الإثيوبي أمام جيش تحرير التقراي في 1991 زلة لسان فرويدية. فقال إن تفكك البلد لن يأتي من هزيمة الجيش السوداني كما يزعم مؤيدو استمرار الحرب. خلافاً لذلك فما سيفكك البلد فعلاً، في قوله، هو استمرار الحرب والاستقطابات المناطقية والإثنية والدولية التي ستنشأ بسببها. فبدعوة قحت لوقف الحرب إنما تريد، طالما لم تنته الحرب بنصر إلى يومنا، تجنيب الجيش الهزيمة. ولا أعرف لماذا استبعد بابكر هزيمة الدعم السريع على يد جيش خرج ليكون له احتكار السلاح ممثلاً شرعياً للدولة. وهي المسألة قضية التي قال بابكر بأنه لا خلاف عليها بل هي مما تضمنه في الاتفاق الإطاري وشدد عليها. وصح السؤال هنا: لماذا توقفت قحت دون دعم طرف الجيش في الحرب طالما كان له الحق في الوجود داخل الثكنات بينما “الجنجويد تنحل”. بل اندلعت الحرب في سياق الاتفاق الإطاري الذي جعل احتكار السلاح رهيناً بالجيش مهما قلنا عن دور للإسلاميين فيها؟ ولا يعرف المرء لماذا هذه الشفقة من بابكر على الجيش التي تحول دونه وأداء واجبه في الحرب لتثبيت حقه في احتكار السلاح. وكان هذا المنتظر من قحت طالما لم يعد من الحرب بدا برغم جهود قحت الحثيثة لطي الخلاف بطريق الاتفاق الإطاري الذي بدا أنها وحده، دون الجيش والدعم السريع، التي تعتقد في نفعه. وسبقني من استغرب ضرب بابكر مثلاَ بإثيوبيا التي قال إنها خرجت صاغ سليم من حرب يونيو 1991 برغم انهزام جيشها الشرعي تحت ضربات الجيش الثوري لشعب التقراي بقيادة ملس زناوي. فلم أقف على مغزى استدعاء بابكر لهذا المثل الإثيوبي الذي خرجت منه إثيوبيا كأحسن ما تكون بجيش “خلاء” ثوري بعد هزيمة جيشها الأول. ما الذي أراد قوله بابكر هنا؟ هل يريد تهدئة روعنا من تفرق البلد متى انهزم جيشنا كما انهزم جيش إثيوبيا لأن الدعم السريع سيكون فينا الحيش الثوري التقراوي فلا ضرر ولا ضرار؟ هل هي منه زلة لسان فرويدية؟
اتفق طه عثمان والواثق البرير مع بابكر فيصل في تحميل الإسلاميين مغبة إشعال الحرب الدائرة من فوق نفس الحيثيات بتفاوت في التأكيد. فرأى الواثق أن يحال أمر تحديد من أطلق الرصاصة الأولى للجنة تحقيق غير أنه مائل برأي شخصي بأن من أشعلها هم الإسلاميون حتى إشعار آخر. أما بابكر وطه فمن رأيهما القاطع أن الإسلاميين هم من بدأ الحرب لمأرب استعادة سلطانهم. وحيثياتهم جميعاً ظرفية تتفاوت في قوتها في رمي الإسلاميين بالتهمة وتوريط الجيش فيها. ولكن من الملاحظ أن ثلاثتهم يذكر واقعة مطار مروي في 12 أبريل، أي قبل الحرب بيومين، مروراً لا يتوقفون عند دلالاتها سوى أنها مظهر آخر دارج من مظاهر التعبئة. ففي ذلك اليوم بعث حميدتي بقوات منه إلى مطار مروي بشمال السودان بذريعة أن بها قوات جوية مصرية خشي من استخدامها ضده. وأخذ الوسطاء من الحرية والتغيير علماً بانزعاج الجيش من تحرك هذه القوة لمروي. والتزموا له بحمل الدعم السريع لسحب قواته من مروي وأن يسحب الجيش القوة المصرية في نفس الوقت. ثم انقطعت الصلة بين الجيش والدعم السريع فلم يتفقا على شيء في خلافهما حول مروي. فتحركت قوة الدعم السريع إلى مروي على مئة مركبة على كل حال. فأصدر الجيش بياناً يصف تحريك قوة الدعم السريع بـ”التمرد”. ورد الدعم السريع عليه بقوله إن ما احتج عليه الجيش هو من صميم مهام وواجبات يضطلع بها كقوات قومية، وأنها مما كفله قانونها بالتنسيق مع القوات المسلحة. واحتل الدعم السريع المطار في 15 إبريل واضطر للانسحاب منه في 16 منه مع أسرى الجند المصريين وبعد تدمير مقوماته كمطار وحرق ما به من طائرات.
لا أعرف لماذا مر المتحدثون من قحت على واقعة مروي عابرين إلى واقعة حصار القوات المسلحة لمعسكر الدعم السريع بالمدينة الرياضية الذي يؤرخون له بانطلاق الرصاصة الأولى من الجيش إن لم تكن من الإسلاميين. فلا أجد من وسطاء الحرية والتغيير من سأل الدعم عن “تطفله” على القوات المسلحة بطلب سحب الفرقة المصرية من مروي كأن لها حق التعقيب على جيش مستحق لعقد ما شاء من العلاقات، مضطلعاً بصميم واجباته كقوات السودان المسلحة، مع من أراد. ومعلوم أن هذه الفرقة المصرية جاءت في مارس 2023 لتدريبات عسكرية ومناورات جوية مشتركة مع القوات المسلحة في إطار استعدادات مصر والسودان لما قد تسفر عنه تطورات سد النهضة. ولم تكن تلك مرة دخول مروي الأولى في خطاب الدعم السريع. فسبق أن حالت القوات المسلحة دونه وبناء معسكر لهم في مروي في مارس 2021. وذاع وقتها عن عبد الرحيم دقلو، شقيق “حميدتي” ونائب قائد الدعم السريع، قوله إنه سيدخل مروي عنوة. وثارت الثائرة في وجهه. وعاد ليعتذر بقوله “مروي الكرم والشجاعة ما في زول بدخلها زندية أو بضراعه (ذراعه)”.
ومتى اعتبرنا نقص الدعم السريع المشاهد في القوة الجوية فهمنا لماذا كانت مروي أسبقية عنده حرك نحوها قواته قبل يومين من يوم اندلاع الحرب حتى أنه أعلن عن احتلال مطارها ومطار الخرطوم في بيان واحد. ومعلوم أن مطار مروي من أحدث مطارات السودان والفكرة منه أن يكون البديل للقوة الجوية للجيش متى طرأ لقواعده من حول الخرطوم طارئ. فأراد الدعم السريع لذلك إخراجه من دائرة الخدمة وهو على تلك المبعدة من الخرطوم ليتفرغ للهجوم على قواعد الجيش الجوية في الخرطوم. فإذا أدركنا نقطة ضعف الدعم السريع في القوة الجوية حيال أي حرب مع القوات المسلحة أحسنا فهم لماذا كانت لمروي تلك الأسبقية في تكتيكه للحرب. وهو إدراك قد يعيننا على قراءة احتكاكات الجيش والدعم السريع قبيل انفجار الحرب بصورة ربما فاتت على مدنيين، أو “ملكية” في لغة العسكر، في قحت سعوا مخلصين بـ”الأجوادية” بينه وبين الجيش ومدارها أن يسحب الجيش المصريين من مروى ليعود متحرك الدعم السريع أدراجه منها. ولا شك أن لحصار الجيش للمدينة الرياضية، أحد أهم معاقل الدعم السريع التي استأجرها قبل شهور من الحرب، مغزاه في أي تحليل عمن بدأ الحرب. ولكن مغزى احتلال مطار مروي ربما وفر لنا قراءة أكثر إحاطة متى أردنا الإجابة على سؤال من بدأ الحرب.
كانت أحاديث الحرية والتغيير في قطر دفاعاً محضاً عن مواقفهم من الحرب إلا من الهجوم متى طرأ طارئ “الفلول”. فإذا ما احتاجت الحرية والتغيير لهذا الفيض من الدفاع عن مواقفها فلابد أنها احتاجت أكثر بمراحل إلى الشفافية مع النفس إلى جانب الدفع عنها. فالشرور التي اندلقت على السودان من سياقات كانت هي من الفاعلين فيها ربما ذكت لها أن الشفافية هي خير وسيلة للدفاع. فخروج قحت من هذا الخراب المخيم على السودان بيضاء اليد كما أرادت بدفوعاتها في قطر بمثابة خروج الشعرة من العجين كما يقال. وشفّ البرير حين قال أن “الفلول” عادوا للميدان السياسي من بوابة ارتباك قحت وتراخيها في تفكيك دولتهم وحزبهم وتركها حبل الأمر على الغارب. فمتى سمعت تصارخ قحت عن أدوار الإسلاميين في الحرب، وكتائبهم الجهادية مثل “البراء” في معارك المدرعات، ونفوذهم الطاغي في الجيش وبقايا الدولة لم يصح عندك أنها شكوى من “فلول”، في جاري قول قحت، بل عن حركة ذات شوكة وملكة وذكاء، بل وربما دولة لم تغب شمسها بعد.
المصدر: صحيفة التغيير