الحردلو (27) للقبرو واشنطون .. يا حاج نوينا..!
مرتضى الغالي
وهكذا يدخل الشاعر “محمد طه القدّال” بالمسدار إلى بعث جديد..! هنا يدلف القدّال إلى (فن المديح) من باب العارف بهذا الضرب من الشعر الشعبي السوداني؛ لغته ومصطلحاته وطُرق نظمه وبنائيته من المفتتح (العصا) ثم توحيد الله والتثنية بالرسول وذكر المخايل والصفات من السيرة ، ثم تناول المعجزات ، ثم التنويه بالصحابة، ثم شيوم البرق والحنين لمواطن الحجاز والمشاعر..ثم تعظيم الصلاة على النبي ، وفي الختام ذكر اسم الشاعر مقروناً بـ(تبكيت النفس)..! .
يجاري القدّال مدحة نبوية شهيرة بنسق لحني بعينه..على غرار مدحة (عليّا طال الشوق) للشاعر “أحمد ود سعد”:
عليا طال الشوق .. وحماني قط ما اروق
للقبرو شام وشروق .. يا حاج نوينا
يقول القدّال:
يا سيد جمال الكون .. عاقل أنا وممنون
لي القبرو واشنطون .. يا حاج نوينا
ثم يمزجها القدّال بمقاطع لحنية من مدائح أخرى:
بي حق كل مغبون
صبحت ديارنا .. مفضوحه وفاضحه
نهبوها وقعدو .. بالسرقه الواضحه
وفساد الذمه .. منكوحه وناكحه
بالبنك الدولي .. وبنوكاً شاطحه
والفقرا جنّو .. وعقولهم سارحه
فيها الحرامي .. الكان بالبارحه
كفتيرة شاهي .. وكبايتاً نافحه
سارح في سوقو .. ماعندو الكاتحه..!
اليوم في (بنزِي) .. “إشارة إلى ماركة سيارة المارسيدس benz”
وعمارتاً ناطحه
لا تشيلو الفاتحه .. في الجته الناتحه
**
صليت بالسته .. لي إمامنا والمأموم
في الجمعه الجامعه .. للعافي والمحموم
ريس الجماعه .. حاكم بلاد الروم
ريَس القضايا … قرقوشاً في “الخرطوم”
وحبيب الشعبِ .. والمجلس المختوم
في فمو طبله .. فوق راسو طيره تحوم
وخطيب الأمه .. كلماتو مِن (أم دلدوم)..
وحكيم افريقيا .. لي حد بلاد باطوم .. إلخ
**
ثم يأتي القدّال بمقطع يماثل أغنية التمتم الشعبية الشهيرة (الله ليا..الليمون سقايتو عليا .. يا حاج أنا) والتي تشير إلى الطائرة الايطالية في الحرب العالمية الثانية التي ضربت أطراف العاصمة:
طياره جاتنا تحوم .. شايله القنابل كوم
دار تضرب الخرطوم ضربت حمار كلتوم … ست اللبن
يقول القدّال:
طياره جاتنا تحوم .. شايلا البشاتن كوم
كتلت حمار كلتوم
للقبرو واشنطون .. ياحاج نوينا
**
وفي التثنية ودمجها مع الصلاة يقول القدّال:
وثنيت بي شعبي .. ما لاحت بارقه
وثنيت بي شعبي .. وأحوالو الحارقه
وما حنّ قمري .. ما غنّت وارقه
عدد البِكبُن .. في السيل الدالقه
وعَد قولة لا لا .. الناس المارقه
وعدد البعرفو .. لي الطغمه السارقه
وكلاب الأمنِ .. هِتيفه منافقه
وعَد (كضب الرادي) .. والبِمشي مسارقه
في الصفحه الأولى .. والنشره العابقه
بالخبر العدسي .. والحجوه السابقه
وما أنّ جائع .. في البلد الحادقه
وارضين التبري .. وانهارا الدافقه
وما خشا فارس .. في سجونا الخارقه
لي (الجن الكلكي) .. لي حبل المشنقه
وعَد الكبداتن .. في ولادن طابقه
وما شمّت أماً .. لي ريح الفارقا
وعدد الحسراتِن .. هامَن في الما اتلقا
وعدد الاحبابُن .. في قيودا مزنّقا
…إلخ
**
وينحو القدّال نحو مديح الصيحة (السرياني) في ما اسماه “أناشيد الزنادقة” وله من هذا نماذج عديدة في وصف الأحوال السياسية:
يا شيخ تُلوب أنزٍل كُبكُب أرمي الحُترُب في الميضَنه
ألبس خُضرُب داخل قُصرُب ألحس شُرُرب في الميضَنه
في البارده تعُب للحاره تسُب عجمان وعُرُب في الميضَنه
لي لدنيا تهُب شبرين وتُضُب في القبرٍ حُرُب في الميضنه
لحوارك كُب والقصر كلوب انهض وأسلُب في الميضنه
دقناً وشُنُب درويشنا يسوق تايوتـا تكُب في الميضَنه
يا شيخ تُلُب زين الزهُلُب الكانو تلوب … في الميضنه
ديل صبحو عُرُب .. أو أضحو جُنُب …… في الميضَنه ..
..إلخ
**
وعلى نهج الحردلو في المربوعات Quatrains (ينم) القدّال:
ود النوق دَبَر كورو العليهو يشفّق
وبقا يتباطا في خبّة مشيهو يلفّق
ان جاهو العلوق صيحة نفاقو تنفّق
اصبحو جِدوَه كل ما شافلو سَلقه يصفّق
**
وديك الجن رفيق همّي وعنايا وفنّي
سوّى طريقه في نهبو وصِبِح متهني
ما هماهو باسط ميّه (سكرة يني)
كل ما جاتو زفّه جديده فوكّا يغني
**
ويا سجم الرماد نط الحِيَط بالزانه
تفضَل خانه يلقا جنابو سيد الخانه
فارش دارو لي أسيادو بيت كرَخانه
غافَل ضبحة الفجري وجرى السلخانه
**
يا حِميَد أقيف شوف الخلوق محنانه
كفكف دمعتك والعبره فوت خنقانه
عسلك سال بحر..فوقو النحل ونّانه
يات من ضاق غرَف..جازاك دبابير دانه
…..إلخ
**
وللقدّال غناء على نمط (الجراري والمردوم):
قمر الحِلّه الضوّا .. القنديل شِن سوّا
ليشن يا ود حوّا .. طالق فينا العوّا..؟!
**
ناس الحٍلّه الغادي .. سووا الجامع نادي
صوتك فوق الرادي .. كلباً نابح صادي
**
ولاد الحِله الفوقنا سارقين نمّة (مربوقنا)
من مُرّك كسّع ضوقنا ومن خيرك ناشف سوقنا
لاحظ أن (المربوق) هو أحد أشكال النَظم في الشعر البدوي وعند الشاعر الحردلو..!
**
أولاد الحِلّه أم ناله لاعبين كارو وعتّاله
يا ساتر مِن ها الحاله الفال الخير ما فاله
**
نحن ولاد قِدّامي لاعبين عسكر وحرامي
ما فرَقَت يا ناس احمد مابتفرِق يا ناس سامي
لاعبين عسكر وحرامي..لا عبين عسكر وحرامي
…إلخ
**
يُذكّرك القدّال أيضاً بحكاية تشديد الحروف (Gemination)عند الحردلو من أجل إحكام الترنّم..؟! أنظر هنا إلى التشديد في روَي مربوع القدّال (عتيّد/ نشيّد/ يأيّد/ بليّد)..
عندما تقول عن شخص إنه (بليد) فهو وصف أخف من الوقع الثقيل لمفردة (بليّد) بالياء المشددة..!
قمنا تلاته؛ ود النوق وديك وعتيّد
وقلنا نكمّل الفرض العلينا نشيّد
مشينا عليك يا المحبوبه شوقنا يأيّد
بقينا ضهابا متل الزول ضرير وبليّد..
**
القدّال يمتح من المعين الشعبي في الريف وفي البادية بألعابها وأساطيرها وزرعها وضرعها ومحفوظاتها:
يا سمحاتنا هوْ لبلب
ويا قمحاتنا هو لبلب
ويا اللوز الفَتق في الوادي هو لبلب
ويا البحر الطمح مدادي هو لبلب
سألتك بالذي ركز الأرض معبد
وسوى الفاس عليها مقام
سألتك بى حشا الأُمّات ودمعاتنا
سألتك بى كبيداتن ودعواتنا
شليل وين راح..؟؟
يكون ضل الخريف فاتنا
شليل وين راح؟؟
**
وزى برق السِماك الجابها دغشيه
وزى زغروده البطن الكُباريه
مرق من شامة القمره
ومقدم بالعديل يبرا
تعالوا أبِشروا آجنيات
شليل ماراح .. شليل ما فات
شليل عند المسورو حِرِق .. بقالو حصاد
شليل فوق التقانِت قام خدار وبلاد
**
شليل مسدار .. شليل مشوار
شليل هو ارِضْنا يا جنيات
شليل قايم نصايص الليل
يتمّم ليلو ورديه
حرازنا شليل .. شليلنا دليب
شليلنا دليل على البلدات
بعد درب التبلديه
**
شليل ما راح شليل ما فات
شليلنا ونحنا همباته ومهاجريه
مزارع بات على عشقين؛
تراب بلدو … وسماح فوق بت مزارعيه
**
يقول “عادل بابكر” في مقال له بالانجليزية بعنوان (القدّال: نسخة ثورية للشعر البدوي) “سوف يتذكّره الناس بأنه أخذ الشعر البدوي إلى مستوىً جديد، واستطاع تأسيسه برصانة كوسيط لمخاطبة موضوعات وقضايا العصر الراهن. حيث تمكّن بسلاسة فائقة من شحن الشعر البدوي بالقضايا الوجودية مثل نضال الناس ضد الطغيان والقهر..والتعبير عن تطلعاتهم للديمقراطية والسلام”..!
**
في هذا السياق لا يمكن إغفال ركن ركين آخر من دهاقنة الشعر البدوي المعاصر هو (الفرجوني .. أحمد عبدالله البنا) .. فإبداعه في هذا الفن يلزم أهل (هذا الكار) ومحبيه بالوقوف عنده..! ولعل الفرجوني ينفرد من بين معاصريه بأن سليقته في الشعر البدوي ومفرداته وأخيلته ومقدرته الوصفية وحالته الشعورية تجعله وكأنه مناظرٌ للروّاد الأوائل..! .
فهو لا يتصنّع البداوة ولا يتعمّل مفرداتها..خاصة وأن البادية هي محور حياته (معنوياً وفيزيقياً) .. وحتى عندما ذهب الى الولايات المتحدة الأمريكية لم يطب له إلا أن يسكن في “بادية أريزونا”..! وعندما كان في مصر لم يكن يحب الإقامة في مدينة القاهرة وإنما خرج منها ليعيش في “بلبيس” بمحافظة الشرقية..! .
لقد أصدر الفرجوني ديوانه “واحة الفرجوني” وفيه العجب العُجاب من مربوعاته ومساديره حتى أن صديقه الحميم والمرجع الوثيق “هاشم حبيب الله” يلاحظ أن الفرجوني ذهب على خلاف كل سابقيه من شعراء البادية المشاهير حيث بدأ مسداره بوصف صيف البطانة القائظ .. بينما عادة المسدار أن يكون موضوعه واستهلاله “فصل الخريف”..! .
ومن باب الطرافة نورد مربوعاً من مرثية الفرجوني لكلبه الأثير الذي دهسه “لوري”:
ضربك لوري..عاد ينشَلْ يمين السايقو
وينزمّ النَفَس تصعَب عليهو طرايقو
زي ما تفّ زورَك قندراني يضايقو..
يتفّو تفيف مُلاح..ما يلقى زولاً يلايقو..!
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة