الحرب في السودان ربما في طريقها للتوسع واستطالة أمدها
بكري الجاك
بغض النظر عن كيف بدأت الحرب، المؤكد أن ما كان يسمى بقوات الدعم السريع كانت تجهز لهذه المعركة منذ وقت طويل، والمؤكد أيضا أن الاسلاميين أو تحالف المال والسلطة الذي يسمى جزافا المؤتمر الوطني قد عادوا للسيطرة على جهاز الدولة في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ، و عملوا بشكل ممنهج على إبطال كل عمليات التغيير التي بدأت في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019. الأحكام القضائية التي كانت تصدر يوم الجمعة لتبرئة كل المتهمين بقضايا فساد وسرقة المال العام من الذين كانت قد وجهت ضدهم اتهامات بواسطة لجنة تفكيك التمكين تحت ذريعة أن اللجنة كانت مسيسة وليست قانونية و غيره من الحيل السياسية، فربما يكون للجنة اخطاء اجرائية و أخطاء جمة في تحويلها قضايا العدالة إلى ملهاة سياسية إلا أن هذا لا ينفي فساد الانقاذ الممنهج و المؤسسي الذي ليس خفيا على طوب الكمائن. والمؤكد أيضا أن قيادات الاسلاميين ظلوا يهددون بالحرب والمواجهة مع الدعم السريع إذا تمت عملية سياسية تغير من طبيعة التغول على جهاز الدولة و توظيفه كوسيلة لحماية و تقنين نهب موارد البلاد بواسطة الدعم السريع و الاسلاميين عبر ما يعرف بمنظومة الصناعات الدفاعية و اخطبوط الشركات الأمنية.
المؤكد أيضا أن التنافس حول السلطة مقرونا مع الخلل البنيوي المتمثل في تعدد الجيوش و غياب وحدة القيادة هي العوامل المباشرة لاندلاع الحرب واستمرارها. والمؤكد أيضا أن هنالك حرب تدور و موت و خراب كبير يحدث في الخرطوم في دارفور و في غرب و جنوب كردفان، و الذي أصبح جليا لكل ذي عقل أن هذه الحرب تدور في الظلام و بحملات بروباغاندا ضعيفة الحبكة وفقيرة الخيال تسعى إلى التأثير في الرأي العام، و بخلاف الدمار و الموت الذي تشهده العين لا أحد يعلم كيف تصنع قراراتها و كيف تدار و ما هي أهدافها النهائية لكل طرف و ماذا يعني الانتصار فيها و كيف يعرف الانتصار فيها. أما السرديات التي يقدمها الطرفان حول مشروعية الحرب و قدسيتها لكل منهم في محاولة لتجنيد السودانيين و خطب ودهم و كسب دعمهم تظل من الاشياء التي يجب أن تجعل عجائب الدنيا تسعة بدلا من سبعة، اعجوبة الدنيا الثامنة هي أن قوات مثل قوات الدعم السريع التي هي امتداد موضوعي و فلسفي لفكرة الجنجويد( حتى وإن تم تقنينها بواسطة سلطة شرعنة القتل ) يمكن أن تكون هي ذات القوات التي ستنهي التهميش و تبني دولة حديثة وتجلب لها الديمقراطية ( كده ضر بس) فسلوك هذه القوات في الوقت الحالي (من احتلال البيوت و الاغتصابات و القتل العشوائي و النهب و منطق الغنيمة) يؤكد أن طبيعتها غير قابلة للتغيير حتى و أن صنع لها قانون و غيرت زيها و أسلحتها. أما أعجوبة الدنيا التاسعة هي أن الجيش، الذي صنع الدعم السريع تدريبا و تسليحا و بانتدابات خيرة كوادره و دخل معه في شراكات اقتصادية على مستوى المؤسسات والقيادات، قد استوعب دروس هذه الأخطاء المؤسسية القاتلة والآن يعمل على تصحيحها، فالمنطق يقول أن هذه المعركة ليست معركة كرامة و انما هي محض محاولة للانفراد بالسلطة لتوظيف جهاز الدولة لمواصلة نهب الموارد للقلة الكليبتوقراطية المتحكمة في مفاصل اقتصاد البلاد.
عليه، ليس هنالك معنى في الخوض في صحة أي من السرديات لأنها لا تستقيم منطقا و هي محض حجج لاستعطاف الناس و محاولة لاكساب هذه الحرب شرعية سياسية ومشروعية اجتماعية تفتقدها بالكامل، فالذي يرغب في هزيمة الكيزان و الفلول ( هو الدعم السريع شنو غير كيزان وفلول في نفسه) لا يحتل بيوت الناس ويهتك أعراضهم وينهب ممتلكاتهم بينما القطط السمان من الكيزان ظلت تسرح و تمرح و كلها لها شراكات اقتصادية مع امبراطورية آل دقلو الاقتصادية.
الذي بدأ جليا الآن من واقع ما يحدث في المواجهات بين البني هلبة و السلامات و ما يحدث في الخوي و ما يحدث في الخرطوم يؤكد أنه لم يعد هنالك قوات تسمى قوات الدعم السريع وإنما هنالك مليشيات خارجة عن اي سلطة و ليس لها قيادة مركزية موحدة تستطيع السيطرة عليها، هذه القوات تعمل بعقل الغنيمة و انتهاز الفرص للنهب و السرقة التي هي نمط حياة لعدد كبير من المنتسبين فيها. أما ضعف الجيش و شبه انهياره فهي حقيقة لا تخطئها عين و اذا تقدمت خمسة تاتشرات من هذه القوات المتفلتة ربما يمكنها الوصول إلى الدمازين خلال ساعات، فما يحدث في قرى شمال الجزيرة ينذر بما هو قادم. أما مهاجمة قوات الحركة الشعبية إلى مدن جنوب كردفان ( كادوقلي تحديدا) فهو أمر في غاية الغرابة و لا يستقيم مع أي منطق عسكري أو سياسي إلا منطق المؤامرة، هذه المدن أصبحت مأوى للفارين من جحيم الخرطوم.
و مع خروج هذه القوات عن السيطرة و مع وجود فرص لتوجهها لممارسة النهب في مدن أخرى من المنطقي أن نتوقع توسيع دائرة الحرب، و حيال غياب الجيش و عدم قدرته من القيام بدوره من الطبيعي أن يفكر الناس في تسليح أنفسهم للدفاع عن ممتلكاتهم وأعراضهم، ومع حالة ضعف المجتمع المدني و فشله (حتى الآن) في تنظيم نفسه في خطاب موحد يعكس ضمير الشعوب السودانية ستسود خطابات الحشد العرقي والاثني،و سيتسلح الناس و سيحاربون القبائل التي ينحدر منها أفراد القوات المتفلتة بدلا من قتال المعتدين فقط، و مؤشرات كل ذلك أصبحت جلية خصوصا خطابات الحشد في ولاية نهر النيل وفي شرق السودان. الأسوأ أن ممارسة الاستخبارات العسكرية في المضايقة على الآمنين من أبناء هذه القبائل سيجعل خيارات الناس كلها صفرية و أنهم في لحظة ما سيقتلون فقط لكونهم من هذا المكون القبلي أو ذاك و حينها ينخرط الناس في القتال اضطرارا لا رغبة وتصبح حرب اهلية حقيقية بدلا من كونها حرب الدولة ضد مكونات ظلت تطعن في شرعية الدولة طوال عمر الدولة السودانية منذ استقلالها.
إذن ماذا نفعل حيال هذه التطورات؟
في تقديري أي حل سياسي لا يأخذ في الاعتبار أنه لا مكان لما كان يسمى قوات الدعم السريع في لعب أي دور سياسي في مستقبل البلاد لا فرصة له في القبول أو التحقق، و بالمثل لا يمكن أن يكون هنالك أي دور للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية مستقبلا هذا مع ضمان إبعاد كل قيادات القوات المسلحة الحالية مع التأكيد على أن ينحصر دور القوات العسكرية في الترتيبات المتعلقة بوقف إطلاق النار الدائم و الانسحاب خارج المدن بالتزامن مع وصول قوات اقليمية لحفظ الأمن و البدء في عمليات اعادة تأهيل أولا و تسريح برعاية دولية مع الاحتفاظ بقوة صغيرة من النخبة تكون بمثابة نواة لجيش الدولة في المستقبل على أن يكتمل بناؤه بعد أن يتوافق السودانيون على مشروع وطني تنموي ودستور دائم يتم فيه تعريف دور الجيش في الدولة مستقبلا بعيدا من الكليشيهات مثل حماية الحدود و الدستور. كما لابد أن تكون هناك إجراءات واضحة و محددة لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب و التخريب الذي سببته الحرب و يجب أن لا يكون ثمن السلام هو الهروب من العقاب أو المكافأة بدور سياسي كما يفكر بعض الساسة من الذين يدّعون الحكمة و البراغماتية كأقصر طريق لإنهاء الحرب علي حساب اي بوصلة أخلاقية.
منذ اليوم الثالث للحرب كنت قد كتبت وتحدثت في عدة قنوات عن أن هذه الحرب ستنتهي بواحد من ثلاثة سيناريوهات وهي ان ينتصر الجيش بالكامل أو تنتصر قوات الدعم السريع بالكامل أو يصبح تعريف الانتصار غير ممكن لأي طرف مما يعني أن يكون الحل متفاوض عليه. و في وقتها تحدثت عن أن الميزة التفضيلية للجيش هي سلاح الطيران والمدفعية إلا أن عدم تمسك قوات الدعم السريع بالارض و تمتعها بخفة الحركة ستبطل هذا المفعول بالإضافة إلى أن هذه الحروب تخاض في المدن ووسط المدنيين و ليست في خنادق. و كنت قد تنبأت (تحليلا لا نبوة) حينها بطول أمد الحرب وأنه سوف لن يكون هناك نصر حاسم لصعوبة تعريف معنى النصر الحاسم لأي طرف و هذا ينذر باستمرارها. و كنت أيضا قد تحدثت عن أن أي صراع مسلح بعد أن يندلع لابد أن يخلق ميكانيزمات داخلية و ديناميكيات لا علاقة لها وسرديات الحرب و من أطلق الرصاصة الأولى.
ياسادتي نحن الآن وصلنا ميس الميكانيزمات الداخلية لحرب السودان التي كل الدلائل تشير إلى احتمال توسعها، و المؤشرات هي: خروج جزء كبير من قوات الدعم السريع وبعضها أصبح لا يأتمر بأمر أي قيادة مركزية و بالمقابل بدأ الناس بالتسلح و الحشد العرقي والاثني، دخول قوات الحركة للقتال في جنوب كردفان، و اندلاع الاشتباكات القبلية في عدة مناطق في دارفور و كردفان و حالة التوتر و الخوف التي تعتري جل مناطق السودان، و مع الأخذ في الاعتبار ما يحدث في اثيوبيا و ما بين أثيوبيا وأريتريا و مع احتمالات تطوره يظل شرق السودان في وضعية هشة للحفاظ على السلم فيه.
أما العملية التفاوضية ما بين جدة و أديس أبابا من خلال عمل الرباعية لتوحيد الجهود في مبادرة الإيقاد المدعومة من الاتحاد الأفريقي و التي رفضها الجيش أو من يتحدث نيابة عنه، و مع الأخذ في الاعتبار كل الهرج و المرج عن مشاركة المدنيين ومحاولات القوى السياسية في الحرية و التغيير و الكتلة الديمقراطية و الاسلاميين بالتآمر على أي جهد مدني لبناء جبهة مدنية شعبية عريضة تعلي صوت المدنيين و تعكس تصوراتهم في وقف الحرب و تشكيل المشهد الوطني في أعقاب الحرب حتى يصبح التفاوض حول كيكة سلطة الخراب ما بعد الحرب سهلة التقسيم، ولكل دوافعه و دفواعاته، فالإسلاميين وبعض المصابين بعاهة التخوين يشككون في أي جهد وطني خالص لوقف الحرب، أما القوي السياسية الأخري تحرص علي السيطرة علي أي عمل حتى تتمكن من توجيهه لخدمة مصالحها السياسية حتي في أزمنة الحرب.
كل هؤلاء تناسوا حجم المعاناة التي يواجهها السودانيين في مناطق الحرب و في المناطق الآمنة نسبيا بل لم تساءلوا هل فعلا الجهات التي تتفاوض لها علاقة بالقتال الذي يدور في عدة مناطق الآن؟ فهذه الصراعات بدأت تأخذ طابع حياة خاصة بها بمعزل عن السرديات و التحشيد و البروباغاندا، و هذا يجعل فرضية وقف الحرب عبر التفاوض و كل هذا الهرج و المرج أمر قد يكون لا معنى له، وربما المدخل الصحيح هو فهم الطبيعة الجديدة التي بدأ يأخذها الصراع (أو الصراعات) و التفكير في عدة مداخل للحلول تتجاوز فكرة الوحدة المركزية للقوات و المشاكل.
خلاصة القول إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع لما يحدث لبلادنا و لو أن الأمور تؤخذ بالتمني لفعلت كل ما في وسعي من الدعاء لإنهاء هذه المعاناة بوقف الحرب واستعادة الأمن و السكينة لكل الناس، و لكن للأسف المؤشرات على الأرض و الطريقة التي يتطور بها الصراع الاجتماعي بعد أكثر من مئة يوم من القتال تنذر بأن هنالك احتمال كبير بتوسيع دائرة الحرب و بأخذها بعدا جديدا، هذا يعني مزيدا من الموت و مزيدا من الخراب و تعطيل للحياة المدنية للطلاب و المرضي و عامة الناس. و الاسوأ أننا كسودانيين لم يعد بيدنا الكثير لفعله سوي الاستمرار في بناء صفنا المدني و توحيده و تنسيق جهوده و لكن جل مفاتيح الحلول هي في أيدي القوى الإقليمية و الدولية و للأسف من الصعب القول الآن بأن هناك إرادة إقليمية و دولية و حريصة على إغاثة السودانيين و مساعدتهم في إنهاء حرب تدور في أرضهم و بواسطة ابنائهم لكنها تخدم مصالح اقليمية و دولية و استمرارها ربما يعني استمرار بيع السلاح و نتيجتها قد تقود إلى تقسيم السودان أو تحوله إلى صومال جديد. إزاء هذا الألم علينا فعل ما نستطيع لتغيير هذه الديناميكيات الجديدة للصراع كما علينا ربط الأحزمة النفسية و المادية و الاستعداد لفترة عصيبة في تاريخنا الوطني الزاخر بالخيبات الوطنية الكبرى من قبل إلا أن هذه الحرب ربما ستكون أكبر هذه الخيبات.
بكري الجاك
14 أغسطس 2023
المصدر: صحيفة التغيير