
حيدر المكاشفي
في مشهد يبدو وكأنه فصل جديد من رواية عبثية طويلة، سجّلت العملات الاجنبية قفزة قياسية مقابل الجنيه السوداني، وبالاخص الدولار الذي يسميه السماسرة (ابو صلعة)، حيث تجاوز سعر الدولار الواحد حاجز الـ3 آلاف جنيه لأول مرة في التاريخ. أما الجنيه، فقد اهلكته الانيميا فأُصيب بهبوط حاد، وخرج من المنافسة الاقتصادية محمولًا على نقالة، في انتظار ما تبقى من أنفاسه اللاهثة.. نهاية الأسبوع الماضي، كان سعر الدولار عند 2800 جنيه، وترددت حينها همسات السوق يا ترى حيعدي التلاتة ألف؟، لكن الدولار لم يسمع الهمسات فقط، بل لبّى النداء وقفز فوق الحاجز، تاركاً الجنيه يتدحرج ويتردى إلى قاع سحيق لا تُعرف له نهاية بعد..
أما وزارة المالية، فقد قررت رفع الدولار الجمركي إلى 2400 جنيه، وكأن لسان حالها يقول إذا لم (نبل ونمتك ونجغم الناس مع هوجة البل والجغم والمتك السائدة الآن ونرفع أسعار الاستيراد فمتى يتسنى لنا ذلك؟!(، في خطوة تعني ببساطة زيادة أسعار كل شيء، من حليب وحفاضات الأطفال إلى قطع الغيار، مروراً بالدواء والغذاء ولم يبق شئ لن تتضاعف اسعاره إلا الهواء الذي إن وجد له جبريل طريقة لما توانى بنهجه هذا من تعبئته في عبوات مستوردة وطرحه للبيع. ومع هذا الانهيار المأساوي، دخلت السلطات على الخط ولكن ليس بالحلول الاقتصادية، بل بمنهجية شعار المرحلة (بل بس والمجد للبندقية) بتنظيم حملة اعتقالات واسعة شملت المتعاملين في سوق النقد الأجنبي، في خطوة يمكن وصفها بأنها محاولة لإطفاء حريق اقتصادي باستخدام قنابل صوتية. لكن المفارقة الكبرى جاءت من بوابة الكهرباء. فبينما انشغل المواطن بعدّ أوراقه النقدية عديمة القيمة قبل أن يشتري كوم طماطم، اذا به يتفاجأ باسعار لا قبل له بها في التعرفة، شملت الجميع، من المواطن العادي الذي لم يعد قادراً على تشغيل مروحة، إلى المدارس والمستشفيات والجامعات التي بالكاد تتنفس كهربائيا. والمفارقة الغريبة والعجيبة ان ذلك يحدث في ظل انقطاع شبه تام للكهرباء، فيما يشبه حكاية من يبيع الناس السمك وهو داخل الماء والطير وهو يحلّق في الهواء. وفي مشهد أقرب للكوميديا السوداء، تسربت أنباء عن نية وزير المالية، جبريل إبراهيم، زيادة مرتبات العاملين بنسبة 100%. وللوهلة الأولى ظن الناس أنها بشرى سارة. لكن خبراء الاقتصاد حذروا من ان هذه الزيادة ستُبتلع فوراً بواسطة التضخم المتوحش، ولن يجد المواطن منها سوى بقايا أرقام على ورقة الراتب. ما يحدث الآن هو انفجار اقتصادي مكتوم الصوت، لكنه عميق الأثر. فالدولة تتعامل مع السوق وكأنه خصم سياسي، والمواطن يدفع الثمن في صمت… أو بالأحرى في عتمة، بعد أن عجز عن مجاراة مارثون الاسعار. حيث ان إرتفاع الأسعار ضرب كل السلع وبات قاب قوسين أو أدنى من أن يرقى إلى مستوى (البلاء) المسمى الشرعي للزيادة المفرطة التي لا يطيقها الفقراء، وما البلاء إن لم يكن هو زيادة أسعار الغذاء التي تفضي إلى نقص الثمرات حسبما جاء في الآية الكريمة، وما البلاء إن لم يكن هو زيادة سعر الدواء الذي ينتج عنه بلاء المرض وعلى ذلك قس حجم البلاءات التي يكابدها من لا يستطيعون مجاراة الركض اليومي للأسعار وهم غالب أهل هذا البلد.. الدولار اليوم يطير بلا مظلة، والجنيه ينهار بلا وسادة، والحكومة تتحدث عن إصلاحات قادمة لا يُعرف متى ستصل. وفي المنتصف يقف المواطن السوداني، كعادته، ممسكاً بفاتورته، وبقايا كرامته. . وبين أزيز الرصاص وخرير الفساد، يقبع الجنيه السوداني في غرفة إنعاش الاقتصاد، يصارع سكرات انهيار مستمر، لا تنفع فيه المسكنات ولا تُجدي وعود حكومة الامل. فمنذ اندلاع الحرب العبثية التي عصفت بمفاصل الدولة السودانية، وتفشي الفساد بشكل سرطاني، بات الجنيه بلا غطاء ولا سند، كمن يُلقى به في البحر مكبل اليدين ويُطلب منه أن يسبح.. فالحرب التي دخلت عامها الثالث دون أفق للحل، لم تكتفِ بحصد الأرواح وتدمير المدن، بل أجهزت على آخر ما تبقى من الثقة في العملة الوطنية. فمع خروج معظم الموارد الحيوية عن السيطرة، وانهيار المؤسسات المالية، وغياب البنك المركزي عن القيام بدوره الفعلي، بات السوق الموازي هو المرجعية الوحيدة لسعر الصرف.. الدولار تجاوز حاجز 3000 جنيه سوداني في السوق السوداء، في وقتٍ ما تزال فيه الحكومة تتحدث عن تعويم تدريجي وإجراءات تقشفية، بينما يغرق المواطن في كومة فواتير وأسعار تتضاعف كل صباح.. أما الفساد، فليس مجرد حالة طارئة، بل صار نمط حكم. فالموارد تُنهب باسم الترتيبات الأمنية والصرف على الحرب، والإعفاءات الجمركية تُمنح بالمحسوبية، وتُدار ثروات البلاد خارج المنظومة الرسمية. لا توجد شفافية في الصرف، ولا حسابات منشورة، وكل ما يُقال عن الإصلاح الاقتصادي ليس إلا شعارات فضفاضة تثير السخرية أكثر مما تبعث على الطمأنينة. من يملك السلاح اليوم، يملك الدولار. ومن يملك النفوذ، يملك العقار والذهب والمركبات الفاخرة، في وقتٍ يتضور فيه المواطن جوعاً ويقف في طوابير التكايا إن وُجدت. فالسودان اليوم وبما يحدث فيه لا يعيش اقتصاد حرب، بل حرباً على الاقتصاد نفسه. فالمؤسسات غائبة، والرقابة مفقودة، والدولة منقسمة على نفسها، تتنازعها سلطتان عاجزتان، ولا تملك حكومة بورتسودان سوى رفع الأسعار وفرض الجبايات على من لا يملك شيئاً.. الجنيه السوداني اليوم لا يحتاج إلى خطط اقتصادية، بقدر ما يحتاج إلى وقف الحرب، واستئصال الفساد من جذوره، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن. فكل إصلاح اقتصادي في ظل الرصاص ما هو إلا حرث في البحر، وكل حديث عن استقرار مالي في ظل لصوص المال العام، محض هراء..
المصدر: صحيفة التغيير