اخبار السودان

الجيش والمدنيين في حضرة بلزاك

الجيش والمدنيين في حضرة بلزاك

زين العابدين صالح عبد الرحمن

الكاتب الأدبي الفرنسي المشهور؛ أونوريه دي بلزاك، والذي تتجاوزت منشوراته 200 عملاً أدبيا وقصص وروايات. يقال تزوج في آخر أيامه من إمرأة يحبها، وسافر معها من روسيا إلى باريس، ومن فرط حبه لها قال لها: إنني سوف اشتري لك هدية من كل مدينة نصل إليها في طريقنا إلى باريس، وإذا تعذر علي الشراء سوف أحكي لك قصة، ويقال إن أجمل قصص بلزاك تلك التي لم تفصح عنها محبوبته.

إن كل فرد سوداني؛ عندما يجلس مع نفسه، يتمنى أن يرى هذا البلد المنكوب بأيادي أبنائه، أن يكون أجمل بلداً في العالم، لأنه مايزال يحمل في أحشائه مقتنيات أجمل من قصص بلزاك، ولكن مشكلة أبنائه أنهم يجيدون الاحتراب، والخصام، ولغة الهدم والعزل، ولكنهم لا يجيدون غيرها، فكل مجموعة تأتي إلى الحكم أول ما تفكر فيه كيف تنفرد لوحدها بالحكم دون الآخرين، لا تتعظ من تجارب ما قبلها، وهؤلاء الذين يرحلون عن السلطة إذا كانوا يحكون قصص فشلهم في الحكم، وروايات مطارداتهم للقوى الأخرى، وعن السجون والانتهاكات التي كانوا من قبل تعرضوا لها ثم جاء دورهم لكي يمارسوا أسوأ منها، كانت تلك الحكايات والسرديات تكون هي أجمل القصص التي سوف تغيير مجرى التاريخ في بلدٍ اسمها السودان.

ولكن يعجزون أن يجدوا البداية للسرديات، لأنهم لا يريدون أن يفضحوا أنفسهم أمام أبنائهم، ويأتي الأبناء يمارسون ذات الأفعال التي تسببت في فشل أبائهم. وتؤكد أن القصص التي لم تحك تبين أن النظام الذي رحل أفضل من الآتي.

يخاف السياسيون أن يحكوا قصص الحكم لأبنائهم حتى لا يتعروا أمامهم، لذلك درجوا على تعليمهم كيف يستخدمون منهج التبرير منذ نعومة أظافرهم، والتبرير يقوم على خدعة الذات قبل الآخرين. تذكرني بقصة شهرزاد في (كتاب ألف ليلة وليلة) التي رفضت أن تحكي في تسليتها للملك قصة (الأميرة بدور) خوفاً أن يطيح برأسها. وبدور كانت تتخفى في ثياب زوجها بهدف خداع الناس. فالرواية في السياسة السودانية حبكتها (الخدعة) على الكل، والكل يخاف من العدل والحساب لأنه يعري الكل أمام الجماهير. والقصص نفسها يشارك فيها كمية كبيرة من الكمبارس بدون أجر، المطلوب إظهار الموقف الذي لا يؤسس على وعي سياسي، وهناك الراغبين في الغنائم.

قال الروائي السوري حنا مينا في كتاب (حوارات.. وأحاديث) عن دوره ككاتب في الوصول لكل القراء دون تخصيص “إنني أكتب للجميع ولكني أتحدث فيما أكتبه، عن قطاعات بعينها بعيداً عن ترف الصالونات، ثم أرغم بقوة الفن، حتى رواد الصالونات على قراءتي أرغم أعدائي، وكذلك الذين يخالفونني الرأي، على قراءة ما أكتب وهذا هو كسبي وكسب كل كاتب”.

يعلمنا حنا مينا أن الكتابة تعد عملاً تواصلياً بين الكاتب والناس، وخاصة القصص والحكايات، فاللغة والتواصل الاجتماعي هما العاملان اللذان بنى بهما هابرماس نظرية الفعل التواصلي) التي فارق بها الجيل الثاني من معهد فرانكفورت الذين تبنوا النظرية النقدية في علم الاجتماع والذين يطلق عليهم ما بعد الحداثة.

إننا في السودان لم نسرد قصص الحكم وحكايات الفشل المستمرة بهدف إبعاد النشء من هذا الطريق الذي أطلق عليه الدكتور منصور (النخبة وإدمان الفشل) وحرصت النخب في فترات الشمولية وحتى الديمقراطية أن تسيطر على أجهزة الإعلام القومية لكي تجعلها أداتها التي تحاول أن تنقل بها تبريراتها، لذلك كل نظام يأتي يهدم ركن من أركان الفن أو إهماله. إهمال المسرح والدراما التلفزيونية والإذاعية وعدم تخصيص الميزانيات المطلوبة لنهضتها خشية أن تهدم هذه الفنون (صرحهم المنهج التبريري) لذلك لا يرغبون في دعم هذه الأدوات لأن رسائلها أكثر فهماً ويتجاوب معها الجمهور.

إن الجيش والنخب المدنية يتساويان في رؤيتهم للفن، لذلك هم الذين يحبون قصص بلزاك التي لم تر النور لأنهم يحبون (التقية) لا يظهرون ما يبطنون. يتساوى الإثنان في الحكم وفي التبرير. الفرق أن العسكر حكموا فترات طويلة وأن المدنيين فتراتهم قصيرة لكنها أسرع سقوطاً من مثيلاتها، المدنيون لا يجيدون فن المراوغة مع العسكر، ويخسرون دائماً القوى التي قدمت لهم الحكم على طبق من الدماء. نسأل الله حسن البصيرة.

[email protected]

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *