الجيش والإخوان.. عقدة السودان

من يقرأ المشهد السوداني الراهن بعيون تحليلية لا تغفل جذور التاريخ، يدرك أن الأزمة ليست طارئة أو وليدة أخطاء سياسية معزولة، بل هي نتاج مباشر لتحالف قديم ـ ومستمر ـ بين المؤسسة العسكرية وتنظيم الإخوان المسلمين، تحالف صاغ ملامح الدولة السودانية منذ أكثر من ثلاثة عقود، وحوّلها إلى ساحة صراع دائم بين منطق الدولة ومنطق الجماعة.
لقد تأسّس هذا الارتباط مع انقلاب 30 يونيو 1989، حين تحوّل الجيش السوداني من مؤسسة وطنية إلى ذراع تنفيذية لمشروع أيديولوجي لم يعترف بالدولة إلا بقدر ما كانت أداة لتمكينه. ومنذ ذلك الحين، صار السودان دولة مُختطَفة، لا تُدار بمنطق المواطنة بل بمنطق الولاء، لا تحتكم إلى الدستور بل إلى “فقه الضرورة”، ولا تتحرك نحو المستقبل بل تغرق في استعادة هويات ما قبل الدولة.
أزمة السودان اليوم، إذن، ليست أزمة انتقال، بل أزمة بنية. إنها أزمة مؤسسة عسكرية تماهت مع المشروع الإخواني حتى تلاشت الفواصل بين الثكنة والمنبر، وبين السياسة والعقيدة، وبين الوطن والجماعة. ومن هنا، فإن أيّ تصور للخروج من هذا النفق لا يمكن أن يُكتب له النجاح ما لم يبدأ من القطيعة الكاملة مع هذا الارتباط العضوي بين الجيش وتنظيم الإخوان.
◄ لا خيار أمام السودان إلا أن يواجه عقدته الكبرى بشجاعة: أن يحرر الجيش من ربقة الجماعة، وأن يعيد الدولة إلى أهلها، بعد أن سُلبت منهم باسم الأيديولوجيا و”التمكين”
لقد ظلت المؤسسة العسكرية، على مدار ثلاثة عقود، تُعَدّ العمود الفقري للحكم، ليس باعتبارها ضامنة للاستقرار، بل لأنها كانت أداة سيطرة وهيمنة بيد فئة بعينها. وخلال هذه الفترة، تمّت إعادة هندسة الجيش ذاته، تنظيما وعقيدة، ليكون خادما لمشروع الجماعة، لا حاميا للدولة.
واليوم ومع كل محاولة جدية للانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، تتبدّى الحقيقة نفسها: الجيش لا يزال أسيرا لتلك العلاقة التاريخية، ومُثقلا بميراث من الولاءات، وشبكات المصالح، والعقائد المشبوهة. ولا غرابة إذن أن تُجهض كل محاولات الانتقال، ويعاد إنتاج الأزمة مرارا وتكرارا.
فك هذا الارتباط ليس ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية. لا يمكن بناء دولة مدنية ما دامت الجيوش تُختَطف باسم “الشرعية الثورية” أو “حماية العقيدة”. ولا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية، أو إصلاح مؤسسي، أو حتى تنمية مستدامة، ما دام جهاز الدولة خاضعا لتحالف “الثكنة والمنبر”.
فما العمل إذن؟
يتعيّن أن تُعاد صياغة العقيدة العسكرية على أسس وطنية خالصة تلتزم بالولاء للدستور والقانون لا للزعيم أو الشيخ أو الحزب. ويستوجب ذلك أيضا إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية لتكون تحت سلطة مدنية منتخبة، مع تفكيك شبكات التمكين التي غذّت هذا التحالف لعقود، سواء من خلال الامتيازات الاقتصادية أو الامتداد الإداري والسياسي. كما ينبغي إخضاع كل من استغل الجيش في القمع أو التمكين أو الإثراء غير المشروع للمحاسبة الشفافة، دون مواربة أو استثناءات. إلى جانب ذلك، لا بد من إطلاق مشروع وطني جامع، يعيد تعريف الدولة بوصفها أرضا لكل مواطنيها لا ساحة تصفيات بين الجماعات ويؤسس لتعايش لا يقصي أحدا، ولا يُسقط هوية لصالح أخرى.
قد تبدو هذه المهمة شاقة، بل محفوفة بالمخاطر، لكن التردد في مواجهتها هو ما مكّن الخراب من التمدد. فكل تأخير هو تعميق للجراح، والمزيد من النزيف الوطني. ولا خيار أمام السودان إلا أن يواجه عقدته الكبرى بشجاعة: أن يحرر الجيش من ربقة الجماعة، وأن يعيد الدولة إلى أهلها، بعد أن سُلبت منهم باسم الأيديولوجيا و”التمكين”.
الشعب السوداني، الذي أسقط أعتى الدكتاتوريات لا يليق به أن يُحكم بثكنة أو يُخدع بمنبر، بل بدولة تليق بتضحياته، وحلم يليق بكرامته.
المصدر: صحيفة الراكوبة