رشا عوض

من أكبر أعمدة الوعي الزائف في السودان حكاية اختزال الوطنية في موالاة الجيش وتقديسه ورفض مجرد الحديث عن اختلالاته، في حين أن تجربتنا العملية منذ الاستقلال وحتى الآن أثبتت أن هذا الجيش كان أكبر معول لهدم الوطن، ولا توجد أي مؤشرات؛ لأنه مستعد لمجرد الاعتراف بالخطأ ناهيك عن التفكير الجدي في الإصلاح وإعادة البناء.

قلت وأكرر: حل الجيش هو الواجب الوطني الذي تأخر كثيرا!

نيريري عندما حل جيش الاستعمار في تنزانيا، وبنى جيشا جديدا ضمن إعادة بناء الدولة اقتصاديا وتنمويا، فعل ذلك لأنه “أب مؤسس” بحق أدرك أن الجيوش المصممة لحراسة نظام الحكم الأجنبي لا تصلح لأن تكون جيوشا وطنية، ولو استمرت كما هي لن تكون سوى استعمار داخلي للشعب!

نخبتنا السياسية التي قادت الاستقلال لم تكن صاحبة “عقل تأسيسي” أو رؤية استراتيجية لما يجب أن يكون عليه السودان المستقل، فظل السودان بذات الهيكل الاقتصادي والسياسي وذات المؤسسات العسكرية المصممة لحماية وحراسة قصر الحاكم العام الأجنبي واستدامة تراتبية اجتماعية عنصرية وظالمة كان يجب وضع خطة شاملة لتغييرها في سياق بناء الأمة وتحقيق القدر المطلوب من الاندماج الوطني!

إذا كانت مشكلة بعض السودانيين مع الجيش بدأت عام ١٩٨٩م بعد استيلاء “الحركة الاسلامية” على السلطة وأسلمة الجيش، فهناك ملايين السودانيين بدأت مشكلتهم مع الجيش منذ عام ١٩٥٥، وما زالت مستمرة حتى الآن!

ظل ذات الجيش بشفرة تشغيله المصرية المتحورة منذ العهد الخديوي، مرورا بالعهد الناصري وصولا إلى العهد الراهن! شفرة الانقلابات العسكرية وحراسة الاستتباع! شفرة احتقار الحكم المدني والاستخفاف بحياة المواطنين المدنيين!

بوصلة السودان الفكرية والسياسية والأخلاقية الوطنية يجب أن تكون مضبوطة بدقة وحزم في اتجاه إعادة بناء الجيش وكامل المنظومة الأمنية والعسكرية في البلاد على أسس وطنية، إذا لم يتم ذلك فلا خلاص لنا من الحروب الأهلية، ومن الحكم العسكري القامع للشعب والناهب لموارده.

المغفلون سيقولون إن هذا الرأي في الجيش من باب مناصرة الدعم السريع! وكأنما الدعم السريع هبط من السماء يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣، ولم يخرج من رحم هذا الجيش! ولم يشاركه فض الاعتصام والانقلاب على الثورة!

كأنما الجيش لم يكن شريكا للجنجويد في نسختهم الأولى بقيادة موسى هلال في كل جرائم الحرب في دارفور!

من يختزلون الأزمة في قوات الدعم السريع التي عمرها اثنتا عشرة سنة، فهم يتجاهلون أن الخلل البنيوي في الجيش هو الذي خلق الحاجة إلى وجود الجنجويد بقيادة موسى هلال ثم الدعم السريع بقيادة حميدتي ثم درع السودان والمشتركة والاورطة الشرقية فضلا عن كتائب الإسلاميين والمليشيات التي تناسلت أثناء ما يسمى بحرب الكرامة! ببساطة الجيش دائما بحاجة لمن يقاتل نيابة عنه ليتفرغ هو لشؤون السياسة والتجارة!

فبعد مأساة هذه الحرب ما زال الجيش يصنع المليشيات! ويستثمر في خلافات قياداتها المتنافسين على السلطة، كل ذلك يثبت أن جذر الأزمة الوطنية الرئيس هو الجيش!

أعلم أن هناك شبكات مصالح داخلية وإقليمية ودولية مرتبطة بهذا الجيش، وربما تقود المساومات بينها إلى إعادته مجددا وصيا على السلطة، ولو من وراء الكواليس، وأعلم أن هناك استعصاء كبيرا على أي إصلاح أو تغيير داخل هذا الجيش، ولكنني، ومن يشاركونني ذات الفكرة والموقف يجب أن لا نكف أبدا عن حرث تربة الوعي الوطني السوداني وبذر البذور الصالحة فيها وحتما ستثمر ذات مرحلة تاريخية تهيأت لها أسباب الانتصار بقيادة أولي العزم من الرجال والنساء الأحرار والشجعان، والمؤهلين بأخلاق وبعلوم وفنون ومهارات بناء الأوطان.

رؤيتنا للقضايا الوطنية الاستراتيجية يجب أن لا تكون محدودة بحدود عوامل ظرفية مثل تغيرات الميدان العسكري في هذه الحرب لصالح هذا الطرف أو ذاك، فمن الناحية الاستراتيجية الحرب برمتها هزيمة ساحقة للوطن والمواطن.

كثيرون يتناولون مقالي “حل الجيش الواجب الوطني الذي تأخر كثيرا المنشور ب الإلكترونية في سبتمبر ٢٠٢٤” في سياق أنه مولاة للدعم السريع! أو في سياق استنكاري من جانب المغسولة أدمغتهم ويظنون فعلا أن من أركان الوطنية تقديس الجيش! وهؤلاء لم يقرؤوا تاريخ الدول الشبيهة للسودان في ظروفه، وكيف تعاملت مع جيوشها فور رحيل المستعمر. والبعض عندما يذكرني بهذا المقال ينتظر مني تراجعا أو اعتذارا!!

لن أتراجع عن أي فكرة كتبتها إلا في حالة واحدة فقط وهي أن يثبت لي أنها خطأ! فمن يطالبني بالتراجع عن ذلك المقال فعليه أن يعرض على الأدلة والبراهين المنطقية التي تثبت لي أن هذا الجيش لم يدمر السودان، ويخرب اقتصاده ويقتل مواطنيه! وأن هذا الجيش لم يكن أداة لتقسيم الوطن والتفرقة بين مواطنيه!

أقول قولي هذا دون أن أغفل أن لأزمة بلادنا جذورا أخرى تتمثل في عيوب واختلالات حركتنا السياسية التقليدية والحديثة، وواقع التخلف السياسي والاجتماعي بشكل عام، فالأزمة مركبة والإصلاح وإعادة البناء يجب أن يتم في كل الجبهات، ولكن التركيز على الجيش سببه موضوعي جدا وهو أن الجيش مدجج بالسلاح المدفوع ثمنه من حر مال المواطنين السودانيين، ولكنه بدلا من حماية الوطن والمواطن يستخدم هذا الجيش قوته العسكرية في فرض الأنظمة الفاسدة وقمع من يطالبون بالتغيير، وفي حراسة مصالح دول أخرى على رأسها مصر، بل إن الجيش فرض نفسه بالقوة العسكرية حصانة مطلقة ضد أي نقد أو تطوير بعكس التجربة السياسية التي ظلت على الدوام مفتوحة على النقد الصارم من داخلها، ومن خارجها وعلى والمراجعة والمساءلة، أما الجيش فيصوب الرصاص إلى رؤوس معارضي انقلاباته! وهذا هو الفرق!

فالأحزاب السياسية مهما كبرت عيوبها، فقد ظلت خارج السلطة لأكثر من نصف قرن، إذ حكمت المؤسسة العسكرية 55 عاما من سنوات الاستقلال البالغة تسعا وستين عاما.

أما المصيبة الكبرى التي استجدت على البلاد بعد عهد الإسلاميين فهي تعدد الجيوش، الذي جعل إصرار الجيش على احتكار السلطة نتيجته ليست الاستبداد العسكري التقليدي، بل نتيجته الحرب التي نشهد فصولها المأساوية حتى الآن! فالساحة مليئة بالجيوش والحركات المسلحة المتنافسة على السلطة بقوة السلاح! ولأن العقلية والثقافة التي يتشاركونها جميعا: جيش ودعم سريع وحركات مسلحة ومليشيات إسلاموية هي الاستخفاف بحياة المواطنين، تقاتلوا بالأسلحة الثقيلة والطيران وسط منازل المواطنين ومستشفياتهم ومدارسهم!

ويأتيك بعض المتكلمين في الشعارات الذين لا يعيدون ترتيب أولوياتهم حسب المتغيرات الكبيرة والنوعية، ويقول لك شعار الثورة هو “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” ويظن أنه بترديد هذا الشعار أبو الثورة والثورية!

هل يعود العسكر إلى ذات الثكنات في القيادة العامة والمهندسين والشجرة والكدرو ووادي سيدنا وفرقهم التي تتوسط المدن المأهولة بالسكان! وأي اشتباك مسلح يجعل المواطنين الأبرياء في مرمى الرصاص والدانات والقنابل؟ أم أن الشعار المنقذ للحياة بحكم كارثتنا الحالية يجب أن يكون: الثكنات إلى خارج المدن؛ لأن الجيش يجب أن يحرس حدود الوطن لا حدود قصر الحاكم وحدود الإذاعة التي يتلو منها البيانات الانقلابية!

وهل يعود العسكر إلى الثكنات دون أي حزمة من الترتيبات الأمنية العسكرية والسياسية التي لا تجعل عودتهم إليها مجرد استراحة انقلابي!

أما الجنجويد ينحل فما هي طريقة حله؟ هل هي الإفناء بالقوة العسكرية الذي لم يتحقق، رغم أن الحرب المدمرة دخلت عامها الثالث، وأعادت السودان عمرانيا واقتصاديا عقودا إلى الوراء؟ أم أن الأمر يحتاج إلى معالجات عملية لقوات بهذا الحجم، والأهم من ذلك وضع خطة سياسية واقتصادية وتنموية لتجفيف منابع التمليش والحروب الأهلية، ومساومة تاريخية للحفاظ على وحدة السودان في ظل دولة وطنية بنظام حكم مدني ديمقراطي وفيدرالي، دولة تحتكر العنف عبر جيش قومي مهني واحد؟

يجب التمييز بين من يرفع شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” مدفوعا بتطلع صادق لمدنية الدولة التي تقتضي أن يرابط العسكر في ثكناتهم التزاما بواجبهم الدستوري في الدفاع عن الوطن حال تعرضه لمهددات خارجية كما تقتضي وجود جيش واحد يحتكر العنف نيابة عن الدولة ومعالجة واقع تعدد الجيوش، وبين من يرفع هذا الشعار من موقع “الحركة الاسلامية” التي تريد استغلال هذا الشعار لشرعنة بقاء الجيش كما هو لاستخدامه كحصان طروادة تختبئ داخله لتحكم بواسطته نظرا لاحتلالها لمفاصله على مدى ثلاثين عاما! والزعم بأن كل المطلوب منه هو العودة إلى الثكنات التي أثبتت تجربتنا في هذه الحرب أن موقعها نفسه وسط الأحياء السكنية هو عنوان الأزمة والخلل الوظيفي في هذا الجيش، وتجاهل أن العودة إلى الثكنات تمت في تاريخ السودان مرتين في أكتوبر 1964، وفي أبريل 1985، ولم تكن تلك العودة سوى “استراحة انقلابي” عاد الجيش بعدها في كل مرة بانقلاب أكثر شراسة وقبحا من سابقه.

أما الشق الآخر من الشعار “الجنجويد ينحل” فليس الهدف منه في هذا السياق إنهاء وضعية الجيش الموازي وهي بلا شك وضعية مرفوضة، وتتعارض مع مطلوبات الدولة المستقرة والآمنة من خطر الاشتباك المسلح على السلطة، بل الهدف منه إزالة العقبة الوحيدة التي بقيت في طريق انقلاب “الحركة الإسلامية” وعودتها إلى السلطة وتصفية “ثورة ديسمبر المجيدة”، والمزايدة الرخيصة بشعار “العسكر للثكنات والجنجويد انحل” في إطار التعبئة لصالح الجيش والزعم بأن هذا من مقتضيات الوفاء لشعارات الثورة هي مزايدة مفضوحة تماما عندما ننظر إلى أن “حلف الجيش والكيزان” خلال هذه الحرب فرخ، وما زال يفرخ عددا من المليشيات التي تفتح مكاتب التجنيد في طول البلاد وعرضها، فضلا عن المليشيات التي تتدرب في دول أجنبية، إضافة إلى أرتال السلاح الذي يتم توزيعه على كل من هب ودب تحت لافتة الاستنفار والمقاومة الشعبية بدون الضوابط المتعارف عليها لتوزيع السلاح! كل ذلك أفرز واقعا بطبيعته سيجعل “الحالة المليشياوية” في السودان مستدامة! وستنتقل البلاد إلى وضعية أسوأ من ثنائية الجيش والدعم السريع! وضعية عدد متصاعد من المليشيات المتنافسة على السلطة والثروة!

أما الجيش الذي تزعم دعاية الحرب الكيزانية أن تقديسه واجب وطني، فإن أبواق تلك الدعاية يشتمون قائده الفريق عبد الفتاح البرهان بألفاظ بذيئة، ويتهمونه بالخيانة كلما حاد عن خطهم السياسي! وهذا يدل على أن القدسية المطلوبة ليست للجيش كمؤسسة وطنية كما يزعمون، بل القدسية لمشروع الاستبداد الإسلاموي المختبئ في الجيش الذي أثبت أنه غير قادر على الانعتاق من هيمنة الإسلاميين وغير راغب في التخلي عن فكرة أن الجيش يجب أن يحكم السودان بشكل مباشر أو من وراء الكواليس! وفي الوقت الذي يتمسك فيه الجيش بحقه في الحكم المطلق، فإنه فشل فشلا ذريعا في تطوير نفسه فنيا ليكون مؤهلا لاحتكار العنف المسلح، والاختراق الإسلاموي غير المسبوق تاريخيا للجيش انتقص من قوميته المنقوصة أصلا منذ تكوينه كما بدد مهنيته، ونجح هذا الاختراق الإسلاموي الأرعن في تحويل الجيش إلى حزب سياسي منقسم على نفسه إثنيا وقبليا وايدولوجيا، حزب يتصارع فيه النفوذ الإقليمي مثلما تتصارع فيه الطموحات الشخصية للجنرالات.

الجيش بهذه الوضعية هو أكبر عائق أمام أي مشروع وطني للحكم المدني الديمقراطي أو حتى للحكم العسكري الوطني المستقل غير القابل للاستتباع الكامل، كما هو عائق أمام الوحدة الوطنية لما يمارسه من انتهاكات (مسكوت عنها) في دارفور وكردفان عبر القصف بالبراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة الكيميائية، وظل على الدوام عائقا للتنمية واستفادة السودان من موارده؛ لأن نتيجة الحكم العسكري كانت الحروب الأهلية والفساد وتبديد موارد الدولة، ولا أمل في نجاح أي مشروع وطني للسلام والاستقرار والتنمية والديمقراطية إلا إذا اعترف الجيش بأزمته، وانفتح باردات حقيقية على معالجتها، وإذا لم يفعل فسوف يستمر في إعادة إنتاج الأزمات.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.