الجيش السوداني ليس “أمل الوحدة الأفضل” كما يصور نفسه

عزت خيري
من بعيد، يبدو الصراع الدائر في السودان وكأنه مواجهة عنيفة مباشرة بين فصيلين مسلحين رئيسيين: القوات المسلحة السودانية (الجيش) وقوات الدعم السريع. وقد راقت هذه الرواية المبسطة بشكل خاص لصناع السياسات الدوليين الساعين إلى حل سريع لحرب معقدة.
لكن النظر إلى أزمة السودان من خلال هذا المنظور السطحي لا يخدع فقط، بل يفشل في فهم عمق الأزمة وخطورتها. في الواقع، لا يستحق أي من الطرفين، الجيش أو قوات الدعم السريع، الشرعية أو الدعم. فكلاهما ارتكب فظائع جسيمة، وقد وُجهت اتهامات موثوقة لقوات الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب وأعمال عنف مروعة ضد المدنيين، بما في ذلك الإبادة الجماعية.
وقد دفعت وحشية الدعم السريع بعض المراقبين الخارجيين إلى تبني موقف مؤيد للجيش على أنه “الشر الأقل” و”أمل السودان الأفضل في الوحدة”.
لكن خلف هذه الفظائع التي تتصدر العناوين، تكمن طبقة أخرى من التعقيد: فالتكتل الذي يقوده الجيش لا يتمتع لا بالوحدة ولا بالقدرة على استقرار البلاد. بل هو تحالف هش من ميليشيات ومجموعات قبلية وفصائل إسلامية وانتهازيين سياسيين، تحالف يحركه الانتهاز أكثر من القناعة، والطموح أكثر من الوحدة.
وبدلاً من أن يحافظ على تماسك السودان، فإنه يسرّع من تفككه.
لقد أصبح تحالف الجيش، بدلاً من إنقاذ السودان من الانهيار، محركاً لاضطراب أعمق. الأجندة السياسية الأساسية لهذا التحالف، المنطلقة من عاصمته الفعلية الجديدة في بورتسودان، تعكس حنيناً إلى عهد رفضه معظم السودانيين بشكل حاسم حتى قبل أن تدخل البلاد في حرب أهلية في أبريل 2023.
وبدلاً من معالجة جذور الصراعات السودانيةمثل التفاوتات العرقية، والمظالم الإقليمية، والتهميش الاقتصاديقام الجيش بتسليح المجتمعات المحلية، وزاد التوترات الإثنية، ودفع السودان نحو مزيد من الانقسام وعدم الاستقرار المطول.
وهذه العواقب لا تقتصر على حدود السودان، بل يمتد عدم الاستقرار إلى منطقة البحر الأحمر الحيوية، أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم.
وإذا تفاقمت الفوضى، فقد تكون لها تداعيات عالمية تهدد التجارة الدولية والأمن الإقليمي. الافتراض بأن دعم الجيش سيؤدي إلى الاستقرار ليس خاطئاً فحسب، بل هو خطير. فبدون حل سياسي شامل وجامع، لن يستمر الصراع في السودان فحسب، بل سيتصاعد.
منذ اندلاع القتال قبل أكثر من عامين، صوّر الجيش نفسه على أنه خط الدفاع الأخير ضد انهيار السودان التام.
وقد سارع الحلفاء الإقليميون إلى تبني هذه الرواية المبسطة، معتبرين الجيش حصناً مريحاً ضد الفوضى.
لكن عند التمحيص، يتضح أن تحالف الجيش بعيد كل البعد عن الاستقرار. فهو فسيفساء مرتجلة من الفصائل المسلحة يجمعها عدو مشترك هو الدعم السريع. وداخل هذا التحالف، تتعايش الميليشيات القبلية بقلق مع المتمردين السابقين والمجموعات الإسلامية، وكل منهم يسعى إلى تعزيز نفوذه في صراع لا يعد بأي مكاسب مضمونة.
هذه الوحدة سطحية إلى حد مثير للقلق. فالولاء بين هذه الفصائل قائم على المنفعة المؤقتة وقابل للتبدل السريع.
وعندما تشح الموارد أو تُخلف الوعود، يبدأ التحالف في التصدع ويتحول إلى صراع داخلي. وقد ظهرت هذه التوترات بشكل واضح في مدني والخرطوم، حيث لم تمنع الحرب ضد الدعم السريع من نشوب اشتباكات بين الحلفاء المفترضين داخل معسكر الجيش نفسه. يعاني هذا التحالف من ثلاث علل أساسية: أولاً، الولاء هش، قائم على تحالفات مؤقتة لا التزام طويل الأمد. ثانياً، الصراع الداخلي متجذر، مما يقوض الأهداف العسكرية الجماعية. ثالثاً، يفتقر التحالف إلى رؤية سياسية موحدة، حيث تسعى العديد من الفصائلبما في ذلك الشبكات الإسلامية النافذةإلى إعادة النظام الوحشي الذي أطاح به السودانيون بثورتهم في 2019.
هذه العيوب ليست مجرد إزعاجات، بل هي عيوب هيكلية قاتلة. وبدلاً من أن توفر الاستقرار، فإن تحالف الجيش مهيأ للتفكك. وهذه الانقسامات ليست نظرية فقط، بل لها تداعيات ملموسة وفورية.
ففي مدينة مدني مثلاً، بعد طرد قوات الدعم السريع، شرعت الميليشيات المتحالفة مع الجيش فوراً في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وقد دفعت هذه الانتهاكات فصائل أخرى في التحالف، موالية لميني مناوي وجبريل إبراهيم، إلى التدخلليس تضامناً مع الضحايا، بل لحماية سمعتها السياسية ومصالحها الإقليمية.
وشهدت منطقة مايو في الخرطوم سيناريو مماثلاً. فهنا، أصبحت المجتمعات المهمشة والنازحة مسلحة بشدة، وتغذت التوترات المحلية بسياسة الجيش في تسليح الميليشيات بدلاً من معالجة المظالم الأساسية.
هذه السياسات لا تبني سيطرة دائمة، بل تزرع بذور صراعات مستقبلية. فدورة العسكرة هذه لا تولد إلا انعدام الثقة والعنف. وتوضح هذه السيناريوهات الطبيعة الهشة ورد الفعلية لتحالفات الجيش.
وبمرور الوقت، ومع تناقص الموارد وتآكل التحالفات، ستبدأ الفصائل في الانشقاق، مما يؤدي إلى مزيد من العنفليس ضد عدو مشترك، بل بين الشركاء السابقين أنفسهم. لكن الفشل الأخطر لتحالف الجيش لا يكمن فقط في ضعف تحالفاته، بل في فراغه السياسي العميق. فهو لا يقدم للسودان مستقبلاً ذا مغزى.
بل إن مشروعه السياسي يتمحور حول إعادة إحياء مؤسسات من الماضي الفاسدوهو تصور رفضه الثوار السودانيون الذين أطاحوا بعمر البشير في 2019. تجسد مدينة بورتسودان، التي أصبحت فعلياً العاصمة تحت سيطرة الجيش، هذا النهج الرجعي.
فبدلاً من معالجة المظالم التاريخية أو تلبية مطالب الشعوب السودانية المتنوعة، يركز الجيش على إعادة بناء مؤسسات الدولة من دون معالجة عيوبها البنيوية.
لكن بالنسبة للملايين من السودانيين، يمثل الماضي عقوداً من الإقصاء والقمع والإهمال الاقتصادي. وبالتالي، فإن سياسات الجيش القائمة على الحنين إلى الماضي لا تلهم، بل تؤجج السخط الذي أشعل الانتفاضات والحروب السابقة.
ومن دون تجديد سياسي حقيقي، فإن هذا النهج قصير النظر، وعند دمجه مع سياسة عسكرة المجتمع السوداني، سيقود البلاد إلى اضطرابات لا تنتهي. لقد تحولت الحرب في السودان من مواجهة واضحة بين خصمين عسكريين إلى صراعات محلية لا حصر لها، تمزق نسيج المجتمع السوداني نفسه. وقد أصبحت ظاهرة انتشار السلاح متفشية، مدفوعة بمخزونات طويلة الأمد وتدفق مستمر من الأسلحة المصنعة حديثاً، وفقاً لمنظمة العفو الدولية. وأصبحت المجتمعات، التي كانت عالقة بين الفصائل المتحاربة، تتسلح الآن للدفاع عن نفسها أو لحسم نزاعات داخلية أو لحماية الموارد النادرة وسط الدمار الناجم عن الحرب. والنتائج كارثية: فالعنف المحلي يخرج عن السيطرة، ونزاعات الأراضي أصبحت أكثر دموية، والمظالم الإثنية القديمة باتت أدوات للحرب. والتكلفة البشرية هائلة: فالسودان الآن يواجه أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، مع أكثر من 9 ملايين نازح. وبدل أن تحمي المدنيين، حوّلت استراتيجية الجيش العسكرية المجتمعات إلى ساحات معارك، ففاقمت العنف بدلاً من احتوائه. ولكن الصراع في السودان لا يعود فقط إلى مأساة وطنية، بل يتحول بسرعة إلى تهديد كبير للاستقرار الإقليمي والمصالح الاقتصادية العالمية. في قلب هذه الأزمة تقع مدينة بورتسودان، الواقعة استراتيجياً على البحر الأحمر، وهو شريان بحري تمر عبره نحو 14٪ من التجارة العالمية وقرابة 30٪ من الشحن بالحاويات. ومع معاناة الجيش في السيطرة، يهدد عدم الاستقرار بإطلاق تهديدات جديدة، مثل القرصنة والتطرف وتدخل قوى خارجية. وقد بدأت شبكات التهريب وتجارة السلاح وتدفقات اللاجئين بالفعل في زعزعة استقرار الدول المجاورة، مما يزيد من المخاوف الإقليمية. ومن دون تدخل دولي حاسم لدفع حوار سياسي حقيقي، يمكن أن تتصاعد هذه الفوضى بسرعة، بتداعيات اقتصادية عالمية خطيرة. رغم البساطة المغرية في سردية الجيش عن نفسه، فإن دعمه لن يحقق الاستقرار للسودان، بل سيعمق الحرب الأهلية ويطيل أمدها. حتى لو حقق الجيش نصراً عسكرياً حاسماً على الدعم السريع، فإن النتيجة لن تكون سوداناً موحداً، بل أرضاً مقسمة بين أمراء حرب وميليشيات قبلية وسلطات محلية متناحرة. وهذا السيناريو يضمن استمرار عدم الاستقرار، والعنف المستشري، والدمار الاقتصادي. يجب إعادة النظر بسرعة في الوهم القائل بأن تحالف الجيش يقدم مساراً قابلاً للحياة نحو الاستقرار. فالجيش لا يمثل الخلاص، بل يمثل استمراراً للصراع، وتعميقاً للتجزئة، وضماناً لانعدام الأمن الدائم. يقف السودان عند مفترق طرق حاسم. فدعم التحالفات العسكرية الهشة كتحالف الجيش لا يضمن سوى العنف المستمر، والأزمات الإنسانية، وزعزعة استقرار المنطقة. أما البديل الحقيقي للسلام، فهو حوار سياسي شامل يعالج المظالم التاريخية والاختلالات البنيوية التي تغذي الصراعات السودانية. ويتمثل البديل الموثوق به في إعادة إشراك القوى المدنية، ولا سيما تلك التي يقودها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك والتحالف المدني الواسع المعروف بـ”صمود”. فقد سعت هذه القوى، قبل الانقلاب والحرب الأهلية، إلى حوار شامل يركز على الانتقال الديمقراطي والرقابة المدنية على الجيش، مع التأكيد على معالجة المظالم التاريخية والاختلالات البنيوية. دعم شرعيتهم السياسية وقدرتهم، وتعزيز رؤيتهم لحكم مدني، أمر أساسي لتحقيق سلام دائم وتحول ديمقراطي حقيقي. ومن دون دعم دولي وإقليمي لهذه القوى المدنية، سيظل السودان عالقاً في دوامة العنف والعسكرة وعدم الاستقرار. رغم أن طريق التحول السياسي سيكون شاقاً وصعباً، فإنه ليس مستحيلاً. أما البديل، فهو واضح وكارثي: حرب لا نهاية لها، تفكك أعمق، ومنطقة غير مستقرة. الأمل الحقيقي للسودان لا يكمن في مشاريع عسكرية رجعية، بل في رؤية سياسية جريئة قائمة على الشمول والعدالة والمصالحة الحقيقية.
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة