حامد عثمان محمد

 

في عالم السياسة، قد يُغتفر الخطأ مرة، أو يُبرر التقدير الخاطئ إذا اقترن بندم حقيقي وتغيير في المسار. أما أن يُصرّ المرء، أو المؤسسة، على إعادة إنتاج نفس الكارثة، فذلك ليس خطأ بل جريمة متعمّدة، وخيانة صريحة لمبادئ الدولة ومصالح الشعب.

 

هذا هو حال المؤسسة العسكرية السودانية، التي عجزت لا عن حماية الوطن فحسب، بل كانت هي من زرع بذور تمزيقه، حين أنجبت، وربّت، ومكّنت مليشيا الدعم السريع، ثم وقفت مذهولة وربما متواطئة وهي تشهر السلاح في وجهها، وتغرق البلاد في دوامة من العنف والفوضى.

 

قوات الدعم السريع لم تأتِ من العدم، ولم تسقط من السماء. إنها وليدة صريحة للجيش السوداني، وامتداد مباشر لسياسات عقود طويلة من عسكرة الدولة وتفكيكها على أساس الولاء لا الكفاءة. فحين سلّحت الدولة مليشيات الجنجويد لمحاربة التمرد في دارفور، كانت تفتح باب الجحيم دون أن تدري أو تدري وتتجاهل. هذه المليشيات، التي قُدمت لها الشرعية لاحقاً من خلال مراسيم رئاسية وتعيينات رسمية، تحوّلت إلى كيان عسكري مستقل داخل الدولة، يتلقى ميزانيته من المالية، ويأتمر مباشرة بأوامر عليا لا تمر عبر التسلسل العسكري المعروف.

 

ومع كل هذا، لم يتعلم الجيش الدرس.

 

فحين اشتعل الصراع بينه وبين الدعم السريع في أبريل 2023م، كان يُفترض أن يشكّل ذلك لحظة مراجعة جذرية، وانطلاقة حقيقية لإعادة ضبط البوصلة. لكن العكس هو ما حدث. لم يُقدِم الجيش على تفكيك المليشيات، بل راح ينسج تحالفات جديدة مع مليشيات قبلية ومناطقية، بعضها بغطاء سياسي، وبعضها الآخر في الخفاء، والهدف المعلن هو حماية الدولة ، أما الهدف الخفي فهو تكرار نفس اللعبة : صراعات بالوكالة، وضرب خصم بخصم، وتثبيت النفوذ عبر القوة لا عبر القانون.

 

النتيجة كانت كارثية. فالسلاح اليوم ليس في يد جهة واحدة، بل بين أيدي العشرات من المجموعات، كل منها يدّعي حمايته لمنطقة، أو قبيلة، أو حتى مجرد زعيم محلي. اختفت الدولة من مساحات شاسعة، وظهرت جيوش داخل الجيش، ورايات فوق الرايات. فهل هذا جيش وطني؟ وهل هذا صمام أمان؟!

 

أي حديث عن جيش يحمي الوطن والمواطن في ظل هذا الواقع هو محض كذب وافتراء. بل يمكن القول بيقين : أن الجيش، في صيغته الحالية، هو أكبر مهدد لوحدة السودان وأمنه القومي. لا لأنه ضعيف فقط، بل لأنه منبع الفوضى ومنسقها. فأن تُحارب مليشيا خلقتها بيدك، ثم تكرر ذات الفعل مع غيرها، فهذا لا يُسمّى دفاعاً، بل انتحاراً وطنياً منظماً.

 

من الوقائع التي لا تقبل الإنكار:

تصريحات قادة في الجيش والدعم السريع على مدار السنوات الماضية تؤكد التعاون الوثيق بين الطرفين قبل انفجار الصراع الأخير، خصوصًا في فض الاعتصامات وقمع الحراك الشعبي.

تقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية توثق انتهاكات واسعة ارتكبتها كل من القوات المسلحة والدعم السريع ضد المدنيين.

تفشي انتشار السلاح في ولايات مثل شمال دارفور وكردفان والجزيرة، والذي تم توثيقه في تقرير مجلس الأمن الدولي الصادر في ديسمبر 2023م، الذي أشار صراحة إلى أن كميات كبيرة من الأسلحة تُوزّع من دون رقابة رسمية، وبتواطؤ جهات أمنية.

 

فأي صمام أمان هذا الذي يوزّع السلاح على القبائل؟ وأي مؤسسة عسكرية هذه التي تُكرر إنتاج ذات النموذج الفاشل الذي دمّر نصف البلاد؟

 

إن استمرار الجيش في ذات النهج أي بناء المليشيات، ثم محاولة محاربتها لاحقًا هو وصفة مؤكدة لحرب أهلية شاملة لن ينجو منها أحد. بل إنها إعادة تدوير للخراب باسم الأمن، وتثبيت للفوضى تحت لافتة الوطنية.

 

الحل لا يكمن في تغليب أحد طرفي الحرب، بل في تفكيك هذه المنظومة الفاسدة جذريًا. لا يكفي تفكيك الدعم السريع، بل لا بد من إنهاء عهد المليشيات من جذوره، وتجريم كل من يسلّح المدنيين أو يدير قوات خارج إطار الجيش الموحد، الخاضع لسلطة مدنية منتخبة، وبرلمان رقابي حقيقي.

 

ما لم يحدث ذلك، فليكن واضحًا: السودان لن ينهار بفعل التدخلات الخارجية فقط، بل بأيدي من زعموا حمايته، وهم ينهشونه كل يوم، قطعةً قطعة.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.