اخبار السودان

الجهـاد: هل هو دسيسة ترابية أم واقع سياسي ثقافي؟ «2 2»

الجهـاد: هل هو دسيسة ترابية أم واقع سياسي ثقافي؟ «2 2»

د. عبد الله علي إبراهيم

بعد ست سنوات من النضال الفادح للحزب الشيوعي ضد نظام الفريق عبود، عصابة 17 نوفمبر، كان تقييم الحزب له أنه كان إثارياً. فقال تقرير المؤتمر الرابع للحزب، الماركسية وقضايا الثورة السودانية (1967) أننا ناضلنا ضد النظام كديكتاتورية على جيشها العودة للثكنات، ولكن لم نناضل، كماركسيين، ضده كنظام طبقي واجتماعي اتخذ شكل العسكرية.

وقياساً كان نضال معارضة الإنقاذ لها إثارياً قاومها كنظام كيزاني لم يحط علماً لا بطبيعته الطبقية ولا بمؤسساته التي استند عليها. وكانت القوات المسلحة هي أكبر ضحايا هذه المعارضة الإثارية. فقد فرغ المعارضون بالقريحة من أنها تحولت إلى مليشيا للكيزان لا يدخل سلك ضباطها إلا من كان ذو سابقة في الكوزنة، وتحرس أبواب كليتها الحربية لجنة كيزانية تفرز الأعز من الأذل، وأنها تأسلمت حتى النخاع بفضل خطة كيزانية دبرت لذلك التحول لم تترك فيه شاردة ولا واردة.

ربما كان ذلك صحيحاً. ولكنه مما اعتنقه الناس في شعواء المعارضة. فلا أعرف فقهاً معارضاً نفذ إلى تلك الأسلمة لمعرفتها والتحقق من حصولها. ومنعاً للتطويل أنشر هنا كلمة منذ أوائل القرن شغلني فيها سؤال: هل من أسباب موضوعية لتأسلم القوات المسلحة غير ما دبره لها الكيزان؟ بعبارة أخرى: كيف انتقلت صفوتها من ثقافة “ميز الضباط” إلى برش صلاة المسجد في المعسكر؟ ولا أعيد نشرها هنا لأني مقتنع بها الآن كما كنت بالأمس. ولكني لأني اعتقدت ليومي، كما في الأمس، أن المعارضة حالة ثقافية لا تغني عنها الإثارة. وكل من عاش سنوات معارضة الإنقاذ في الحكومة الانتقالية عرف عن كثب أنها عارضت نظاماً لم تعرف من أين جاء حتى سقط.

(نص الكلمة كاملاً في كتابي “الإرهاق الخلاق: نحو استراتيجية شاملة للصلح الوطني (دار عزة 2004 و2016 من مقالات نشرت في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن)

يحمل المعارضون على الجبهة القومية الإسلامية طبعها حرب الجنوب بطابع الجهاد، وشحن أداء ورموز الجيش المفروض فيه القومية بمفردة ثقافية وحيدة دون غيرها من زخم المفردات المتنوعة الاخرى في الوطن. غير منكور أن الجبهة القومية الإسلامية سعت سعيا حثيثاً للتأثير على القوات المسلحة. ويكفي أن من بين شهادات العقيد محمد الامين خليفة المعلنة في ترجمته يوم وقع انقلاب 1989 دبلوم حصل عليه من المركز الإسلامي الافريقي في شأن من شئون العقيدة والفقه. ولست الجبهة بنشاز في ذلك. فقد سعت صفوات اخرى كثيرة لمد الجسور الطائفية والفكرية للقوات المسلحة، بل ولتعيين كادرها الملتزم في المدارس الثانوية في القوات المسلحة عبر الكلية الحربية.

ولكن الاهم من هذا في التحليل الثقافي للجهاد في القوات المسلحة ان نتأمل المحنة التي لمّحت إليها آنفاً: وهي كساد الوطن بينما المطلوب من القوات المسلحة ان تحمي بيضته. ويصح أن نتساءل، ازاء هذه المحنة، كيف يتسنى للقوات المسلحة، مصنع الموت والشهادة، أن تؤدي وظيفتها ملاقية ربها من اجل وطن بائخ؟

كتبت منذ 1988 في جريدة “الأيام” السودانية، وخلال احتلال مدينة الكرمك الأول بواسطة العقيد قرنق، أقول أن من شأن هذه الحرب الطويلة السخيفة من أجل وطن غائب أن تدفع بالقوات المسلحة إما إلى طريق الارتزاق الحرفي بمعنى نشوء مؤسسة مماليك حربية يتوارث الابناء عن الآباء مهنة الحرب، وهو ما لا سبيل لبلوغه في السودان وان حاولت الدولة طرفاً منه، أو إلى ابتكار فكرة غيبية فوق دنيوية خالصة يبيع لأجلها الجندي دنياه بآخرته، ويستدبر حياته مستقبلاً الموت كنسق مدهش. وتمنيت في كلمتي بجريدة “الأيام” أن نسترد، قبل مدينة الكرمك الأسيرة، الوطن تضاريساً من الأمل والعمل حتى تقوم القوات المسلحة على فكرة الوطن الجميل المشبع المفعم، ويكون فيه الدين شاناً شخصياً ملهماً يغلف، ضمن أشياء أخرى، حشرجة الموت ووحشة العتبة الأخيرة. وقرأني نفر من الجبهة القومية الإسلامية في “الراية”، صحيفة الجبهة القومية الإسلامية، واستكثروا قولي وعدوه تجديفاً. ولم يقرأني الليبراليون واليساريون الذين كانوا في شغل يحسبون بشغف خطوات المخلص قرنق تقترب من الكرمك عبر الدمازين إلى الخرطوم الأسيرة. وكنت اعتقد أن كلمتي مما سيفتح الباب ليراجع الليبراليون اليساريون وحشتهم عن القوات المسلحة، وأن يقفوا على باطنها كمؤسسة ويجددوا معارفهم عنها بعد كتابات المرحوم عبد الخالق محجوب خلال الجدل الوطني الطويل: هل ما حدث في مايو 1969 من قبل القوات المسلحة هو ثورة أم انقلاب؟ ولكن اليساريين والليبراليين آثروا ان يهزموا القوات المسلحة لا ان يتناصروا لمعرفتها بكياسة وابداع.

على سلامة القول أن الجبهة القومية الإسلامية قد طبعت القوات المسلحة بطابع الجهاد الا أنه من المفيد أيضاً تامل قابلية هذه القوات للأسلمة في ملابسات الامر الازلي، قريب من العبث، لها بالحرب للذود عن بيضة وطن مبني على المجهول. لقد رأيت أناسا من جيلي ومن جيل تلانا هربوا بشهاداتهم العليا التي مولها السودان إلى بقاع في الدنيا طيرها عجمي بزعم أن الوطن الشريد، المختلف عليه في أمره لا يستحق رجالا في مثل رجاحتهم. فكيف بالله نطلب من القوات المسلحة رجالاً ونساء ان تنشد الموت من أجل نفس الوطن. ما لكم كيف تحكمون؟

القوات المسلحة: النهج الإسلامي، لماذا؟

اننا نحتاج الى فتح فكري مناسب بشأن اسلمة القوات المسلحة. ويؤسفني أن تكون آلتي إلى هذا كتاب “الطريق إلى بور” للعميد الطيب محمد خير، وزير الاعلام في نظام البشير. فالرجل مختلف عليه جداً كما لا يخفى. وأحسبه ربما ندم أنه استخدم “السيخ” في الاعتداء على معارضيه خلال دراسته الجامعية حتى سمي بـ “الطيب سيخة” بينما يملك مثل هذا البيان الطيب. فلو قرات الكتاب بغير اشتباه كمرجع نادر عن باطن حرب الجنوب، انصرف أكثره إلى الرواية لا التحليل، لبدا لك أن الإسلام ربما كان أفضل ما حدث للقوات المسلحة في ملابسات القرار الازلي “العبثي” لها بحرب الجنوب. فمن الوقائع التي ذكرها الكاتب، الذي شارك كممثل للسلاح الطبي في حملة بور في مايو 1985، تلمس، أنه في غيبة الفكرة العسكرية الوطنية الملهمة وبؤس رباط الخيل، تحول الضباط والجنود إلى عقائد في السحر السفلي مثل ارتداء الحجاب الواقي من الرصاص والاستئناس، بـ “التليفزيون البشري” الذي يجلب المعلومات كفاحا عن العدو، والكجور (اسم للإمام في عقائد جبال النوبة السودانية) الذي يفسد المطر لكي لا يصب في مسار الحملة. وكانت ممارسة هذا السحر علامة مدغمة في الاداء الرسمي للحملة. فالتليفزيون البشري، مثلا، كان عريفا بالحملة.

تجددُ “السحر” على هذا النطاق في ملابسات كساد الدولة الأفريقية المستقلة باب مثير في البحث الأنثروبولوجي. وهو، في أفضل النظرات البحثية، ليس عوداً على بدء فلكلوري أو أفريقي وثني، كما يقول البعض، أو خرافات جاهلية كما أوصى منصور خالد، وإنما هو، أي السحر، نبت بيئة دولة ما بعد الاستعمار ومستودع أكثر تواتراتها، وفقر مواردها، وخيالها، ووجدانها، وابطالها، ووعدها. وينشط الباحثون بخاصة من المدرسة الفرنسية وعلم الاجتماع في دراسة سياسات السحر وسحر السياسة الأفريقية. وكمسلم فأنني اعتقد أن جيشا محصناً بالإسلام لهو أفضل عندي من جيش يتعاطى السحر ويركن إليه. فإذا كان البديل لجيش محاصر مجهول هو السحر، فإسلامه أوقع وأشفى.

الهمجــية أو الإسلام:

وكان القوات المسلحة بإزاء خيار آخر، الهمجية أو الإسلام. فقد جاء في الكتاب ان بعض المحققين والمستجوبين من القوات المسلحة اجتمعوا على أسير متهم بالانتماء إلى جيش العقيد قرنق. وساموه الخسف، وأوسعوه الأذى حتى أدموه، وقاربوا موته والرجل صامت صمت الجبال. والتمس منهم دكتور الطيب ان يقتلوه لأن الإسلام لا يحل تعذيب الاسر. ولم يمنع ذلك بالطبع النظام الذي ينتمي إليه الكاتب حالياً من تعذيب معتقليه السياسيين. ولكن هذه قصة أخرى. وقد استرجعت في ذاكرتي ما روى عن تعذيب الشفيع احمد الشيخ، الزعيم النقابي، الذي شنق في 1971 بواسطة قادة عسكريين مثل ابو القاسم محمد إبراهيم حتى حمل جثة هامدة إلى المشنقة. وقدرت أن ممارسات حرب الجنوب لابد لها ان تعدي الوطن كله. فلا مناجاة. فالمقابر المجهولة التي تضم رفات رجال في قامة محمود محمد طه، وعبد الخالق محجوب، ومحمد صالح عمر، ووليم دينق من دفنها ضباط وجنود من القوات المسلحة لتذكرنا أن “همجية” حرب الجنوب قد أضحت علماً من علوم الميدان وعلوم السياسة.

غاية القول هنا ألا نستثمر التظلم المشروع من تحول الحرب في الجنوب عن جادة الحرب الوطنية إلى الحرب الجهادية بصرف هذا التحول كمجرد حيلة ماكرة ميكافيلية من حيل الشيخ حسن الترابي. فالأدنى إلى الحق أن تتأمل قوى المعارضة، التي وطنت نفسها على هزيمة القوات المسلحة، نفسها قليلاً أو طويلاً في مرآة هذه القوات المسلحة التي أثقلناها بحرب من أفقر الحروب وأطوالها فتخبطت خبط عشواء بين الوطن والسحر والدين.

فقد تنقلت أكثر القوى السياسية “الجلابية” بين كراسي الحكم التي حتمت عليها متابعة الحرب، وبين وحشة المعارضة التي الزمتها بالدعوة إلى السلم، أو نقض السلم، الذي يتم بغير واسطتها. وهذا من نهاية السياسة ولا تثريب. ولكن، في حين تغيرت مصائر القادة الجلابة بين الحكم والمعارضة، ظلت القوات المسلحة في عمق الوغى مشهداً للموت المؤسسي، تعالج أمر محنتها بسبل شتى وبتوفيق متفاوت. وصح عندي أن نراجع معرفتنا لهذه المؤسسة قبل أن نقرر حربها وهزيمتها. فالجهل أبعد الحيل عن النصر. والمعرفة قوة.

[email protected]

هل من سبب موضوعي آخر غير مكر الكيزان لما يذاع عن أسلمة القوات المسلحة؟ «12»

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *