“الجنرال في متاهته” لغابريال غارسيا ماركيز بطل التحرير بأيام خرفه الأخيرة
“طوال سنوات عدة أصغيت إلى ألبارو موتيس وهو يحدثني عن مشروعه لكتابة نص حول آخر رحلة قام بها سيمون بوليفار على نهر ماغدالينا. وهو حين نشر “إيل أولتيمو رسترو” كمقاطع استباقية تمهد لإنجازه ذلك العمل الموعود، بدا لي هذا الكتاب من النضح، كما بدا لي أسلوبه وإيقاعه من الاكتمال، بحيث رحت أنتظر قراءة النص كله خلال فترة وجيزة. ومع هذا، بعد ذلك بسنتين، خالجني الشعور بأن موتيس رمى مشروعه كله في مهب النسيان، كما يحدث معنا، نحن معشر الكتاب، حتى بالنسبة إلى أحلامنا العزيزة علينا. ومن هنا سمحت لنفسي بأن أطلب من موتيس الإذن بأن أكتب، أنا، الحكاية. وهكذا، بعد 10 سنوات من الانتظار، أصبت المرمى تماماً. ولذا فإن عرفاني يذهب إلى موتيس قبل أن يذهب إلى أي إنسان آخر…”.
حيرة النقاد
حتى اليوم لا يزال نقاد ودارسون كثر، حائرين حول تصنيف هذا الكتاب. فهل هو رواية أم هو مجرد سيرة لبطل تحرير أميركا اللاتينية؟ أم هو كتاب موارب عن ديكتاتور ما؟ أم نوع من سيرة ذاتية مواربة للكاتب نفسه؟ والحقيقة أن “الجنرال في متاهته” هو عن ذلك كله، مع التشديد على أنه، في المقام الأول، رواية، ورواية من النوع الذي يتقن ماركيز الاشتغال عليه. ذلك أننا نعرف أن صاحب جائزة “نوبل” هذا، ندر له أن وضع رواية، أو حتى، قصة قصيرة، من دون أن يكون للنص، سند ما، مستقى من الواقع، سواء كان ذلك واقعاً عايشه بنفسه، أم صادفه في الكتب وفي ثنايا التاريخ، بيد أن هذا الواقع سرعان ما يتحول بين يديه إلى شيء آخر تماماً، إلى نص حكائي ممتع، لكنه في الوقت نفسه حافل بالدلالات المتنوعة. ومن هنا، إذا كنا نعرف حقاً أن “الجنرال في متاهته” هو كتاب سيرة، صيغ تحت قناع يمزج التاريخ الحقيقي بالغرائبية بسبر أغوار النفس، بإعادة النظر في أسطورة ما، فإن قراءة الكتاب تقول لنا، من خلال وصف الأيام الأخيرة من حياة سيمون بوليفار، ما أراد ماركيز أن يقوله من حول تلك “الصدمة” الكبرى التي تشكلها مجابهة الفرد للتاريخ، سواء كان هذا الفرد إنساناً بسيطاً أم قائداً عسكرياً أم بطل تحرير، أم ديكتاتوراً، أم كولونيلاً متقاعداً أم مجرد شاب متهم بالقتل، أم طفلة دفنت صبية ذات يوم. فالحقيقة أن العالم الذي يخلقه ماركيز من حول حدث بسيط، أو شخصية مركبة، عالم ينتمي إليه شخصياً وربما، حتى، ينطلق منه، ويصب في عمق أعماقه.
اختيار اللحظة التاريخية
انطلاقاً من هنا لا يعود اختيار الكاتب للحظة التاريخية التي يود أن ينطلق منها، اختياراً عشوائياً. وهذه اللحظة في “الجنرال في متاهته” تقع تحديداً خلال الفترة التالية ليوم الثامن من مايو (أيار) 1830، لتتوقف، تحديداً، يوم الـ17 من ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه. وتترافق هذه الفترة التاريخية مع الأشهر الأخيرة من حياة بوليفار، إذ يبدأ في التاريخ الأول رحلة منفاه الأخيرة، خارج كولومبيا، ليصل في التاريخ الأخير إلى نهاية حياته من دون أن يصل، طبعاً، إلى المنفى المبتغى. وإذ يرصد ماركيز أحداث وتطورات هذه الأشهر الأخيرة، إنما يقوم في الوقت نفسه برحلة داخل حياة الجنرال وأفكاره وذكرياته، مما يمكنه من إعطاء صورة جوانية، من الصعب القول إنها تتلاقى حقاً، مع الصورة المعهودة لبطل التحرير في أميركا اللاتينية والذي تحمل اسمه عشرات المدن والصروح، ناهيك بدولة كاملة هي بوليفيا. غير أن ما يهم ماركيز من حياة الرجل، ليست سنوات عظمته ومجده، وأفعاله البطولية والتحريرية، بل سنوات سقوطه، تاريخياً ونفسياً، وربما في شكل يذكر بمصير ديكتاتور “خريف البطريرك”.
رحلته الأخيرة
منذ بداية “الرواية” ندرك أن بطلها لا يعرف أبداً أنه إنما يخوض الآن، رحلته الأخيرة، حتى وإن كان واعياً أن مسيرته ابتدأت مع تخليه عن السلطة. ومن الواضح أن ماركيز، إذ التقط “بطله” عند تلك اللحظة، فإنه انطلق من أسئلة عدة، يفترض أن بوليفار راح يطرحها على نفسه: ما الذي يحدث؟ وهل أنا حقاً مريض إلى درجة تجعل الآخرين يسألونني أن أكتب وصيتي؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذه المتاهة؟ ولئن كانت “الرواية” كلها محاولة من ماركيز للإجابة عن هذه الأسئلة، فإنه ليس من الضروري أن تكون الإجابة جزءاً مما تستبطنه أفكار بوليفار. فالنص يسير في خط، والجنرال في خط آخر. والمهم بالنسبة إلى ماركيز هو أن يسرد، في وقت يصور لنا الجنرال وموكبه ينحدران على طول نهر ماغدالينا، الموصل من بوغوتا العاصمة كولومبيا حتى سان بدرو أليخاندرينو، حيث ستكون نهايته، مروراً ببارانكويلا مسقط رأس ماركيز نفسه بعد ذلك بنحو قرن من الزمن، تلك الرحلة عبر نهر شكل جزءاً من طفولته هو الذي، يقول لنا في تقديم الرواية، إنه كثيراً ما أخذه إلى بوغوتا، المدينة التي لم يحبها أبداً، مع أنها كانت منطلقه الأساس.
استقبال الأبطال
المهم هنا هو أن الكتاب يرافق تلك الرحلة التي يعبر خلالها بوليفار مدناً وبلدات، كان سكانها يستقبلونه استقبال الأبطال غير دارين أنه تخلى عن السلطة، وأنه الآن في طريقه إلى نوع من المنفى، وهم كذلك لا يعرفون أن الرجل مريض. هذا الأمر نعرفه نحن القراء، إذ إنه يشكل المادة الرئيسة التي يصفها قلم ماركيز، إذ أن أقوى الصفحات هنا هي تلك التي يصور فيها هلوسات بوليفار وقد استبدت به الحمى، فيقدمه إلينا غارقاً بين أحلامه وذكرياته وتوقعاته، مستعيداً في ذاكرته، لحظات مجده ومعاركه، وبخاصة حكايات غرامياته المتحررة، وولادة الأوطان التي صاغها وركبها على مزاجه، وصولاً إلى حكاية القارة الأميركية اللاتينية التي أعاد اختراعها، بعدما انتزعها من الاستعمار الإسباني. إن هذا كله يقدمه إلينا ماركيز في سرد يتأرجح بين الأحلام والكوابيس، ولكن كذلك في سرد يجعل نهر ماغدالينا، نهره الخاص، بطلاً موازياً لبطل الرواية، وفي شكل يجعل القارئ على يقين من أن رحلة بوليفار ما كانت لتغري الكاتب لو لم يكن النهر المعني هو نهر ماغدالينا، حتى ولو أصبح النهر هنا مجرد كناية ورمز: كناية عن الزمن الذي يسير ويسير، حتى يوصل البطل الخرف، بفعل المرض لا بفعل السن، إلى بحر يرمز إلى الموت.
ومهما يكن من أمر هنا، فإن ماركيز نفسه لا يفوته أن يقول في معرض حديثه عن “الجنرال في متاهته” “إن ما أثار اهتمامي في هذه الحكاية، أكثر كثيراً من أمجاد بوليفار، إنما هو نهر ماغدالينا نفسه. ذلك أنني عرفته خلال طفولتي، انطلاقاً من شاطئ بحر الكاريبي، إذ كان مولدي السعيد، حتى بوغوتا، البعيدة والمربكة، إذ منذ أيامي الأولى فيها شعرت أنني غريب أكثر مما في أي مكان آخر”.
لم تكن صدفة
والحال أن من يقرأ سيرة ماركيز الذاتية، وكل ما كتب عن حياته، يدرك فحوى هذا الكلام، ويدرك في طريقه، أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يلتقي قلم صاحب “خريف البطريرك” يوماً، بحكاية الأيام الأخيرة لسيمون بوليفار. أما الذين، حين علموا بأمر “الرواية” منذ الإعلان عنها، اعتقدوا أن كاتبهم المفضل أراد أن يروي فيها سيرة مؤسس أميركا اللاتينية، فإنهم، اعترفوا لاحقاً، من خلال الإقبال عليها، أن خيبة أملهم لم تطل، لأن التعويض على واقع أن الكتاب لم يتناول سوى الأشهر الأخيرة من حياة بوليفار، أشهر خرفه ومرضه وصولاً إلى موته، جاء على شكل رواية تكاد تجمع في صفحاتها، القليلة نسبياً، معظم المواضع، الذاتية والعامة، التي شغلت بال ماركيز، كما شغلت قلمه، منذ حرك هذا القلم للمرة الأولى، إذ كان، بعد، صحافياً شاباً، يشق طريقه، متمرناً على وجوده الكتابي اللاحق، من خلال مقالات وتحقيقات، عاد واستخدمها في رواياته وكل كتاباته اللاحقة، خالقاً فيها عوالم جديدة لم يكن، حتى هو نفسه، مدركاً أنها ستشكل يوماً، متناً إبداعياً أضاء النصف الثاني من القرن الـ20، ولا يزال يفعل حتى اليوم.
إندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة