الجماجم التي صارت في واحد
عمر الحويج
قصة قصيرة
لا أحد يدري ، إن كان ذلك بفعل البرد القارس ، أو كان ذلك بفعل انعدام المأوى: أياً كان الأمر ، فقد اندسّ ثلاثتهم ، تحت عجلات الشاحنة الضخمة.
في اليوم التالي ، كان ثلاثتهم، عنواناً وإن لم يكن منزوياً كثيراً في صحف الصباح .. ما حدث بعد ذلك لم تُشِر إليه الصحف، في حينه .. لكنه وصل أسماع الناس .. كل الناس في ما بعد:
الجماجم التي كانت ثلاثاً صارت في واحد .. الجماجم التي صارت في واحد، تقود الشاحنة .. الجماجم التي تقود الشاحنة تتحدث : أنا ..
تأكيداً ، قد وصلت. إلى هنا، في ذات اليوم الذي صرنا فيه جماجم.
في ذلك اليوم .. لم تكن هنالك بداية .. هنالك .. فقط تلك الليلة ، الظلام .. الليلة ، غير المقمرة: ساعدناهن ، على التسلل خلسة .. من وراء ظهر الآخرين. هنّ كذلك .. لم يبخلن علينا ، أعطيننا .. من الفرح ، الكثير … ولكن الفرح لم يكتمل :
في تلك الليلة الظلام .. الليلة غير المقمرة ، جاءتنا تلك التي يخشاها الجميع، يخافها الجميع .. يموت فيها الجميع. جاءتنا هذه المرة ، ليس ككل المرات: جاءتنا هذه المرة .. من فوق وليس من .. تحت. لا نحن .. ولا الآخرون ، لنا سابق علم ، بأنها قد تأتي يوماً .. من فوق ، لذلك حسبناها ، لوهلة .. “صوت الرعد العابر”، من ذلك الذي تآلفت معه ، أسماعنا ، وواصلنا فرحنا إلى حين. توقف ، فينا الفرح :
حين اكتشفنا .. أن البعض منا .. تفحم جسده.
حين اكتشفنا .. أن البعض منا تطايرت أطرافه.
حين اكتشفنا .. إن البعض منا .. صار بدون فرح.
اندفعنا .. وجهة مساكننا : لم نجدها. مساكننا!!، ولم نجد أهلنا فيها : لا فوقها .. لا تحتها .. لا خلفها : حين نقَّبْنا في ما تبقى من أثر .. لم نجد غير الرماد ، وقبض الريح ، و.. تبعثرنا شتاتاً.
فقط رفيقتي ، التي ساعدتها على التسلل خلسة .. كانت معي ، وحتى هي .. فقدتها بعد حين .. أصابتها حمى قاتلة: تركتها .. حتى قبل أن يكتمل موتها .. بدراً. ربما لهذا .. هي ، والذين تفحمت أجسادهم ، والذين تطايرت أطرافهم .. والذين صاروا بدون فرح .. هنا الآن .. مع الـ… والجماجم التي كانت ثلاثاً ، صارت لا تحصى … والجماجم التي لا تحصى صارت في واحد. والجماجم التي صارت في واحد ، تقود الشاحنة ، والجماجم التي تقود الشاحنة .. تردِّد مع المغني ، الذي لم يأت بعد:
هو .. ها .. يا هوو .. ها
العروس عايزة عريس
والعريس عند السلطان
والسلطان عايز .. دماء
والدماء .. عند الساحات
والساحات عايزة .. مطر
يا مطر .. يا مطر .. يا مطر
.. المغنّي الذي لم يأت بعد .. يتحدّث:
هو .. لا يعرف ، هذا الرجل الذي وصل .. في ذات اليوم الذي فيه .. صاروا ، جماجم .. لا يعرف .. رفيقته التي كانت معه .. رفيقته ، التي ساعدها على التسلل خلسة ، رفيقته تلك : لم تمت من الحمى .. حتى أنه لم يتركها ، قبل أن يكتمل موتها بدراً .. كما ادَّعَى.
رفيقته ماتت .. نعم
حين فقدته في تلك الليلة الظلام .. الليلة غير المقمرة ، كان يفتش عن ثديي : يفتش . بحثاً عن قطرة إكسير تمده .. ببعض من جولات .. أُخَر. فلم يجده : ليس الأكسير.. أعني ثديي لقد فقدته هو الآخر ، في تلك الليلة الظلام .. الليلة غير المقمرة : فقدت .. ثديي ، وطفلي الذي كان .. جميلاً.
حين وصلنا ، أنا.. وزوجي، ذلك القابع في الركن القصي ، لم ندخر وقتاً .. لم نستثمره. حين وجدنا يوم. كنا نرقب خروجه ، بين لحظة .. وأخرى. إلى أن كانت ، تلك الليلة الظلام .. الليلة غير المقمرة ، حين جاءها المخاض. وبكل اللهفة والشوق ، توجهت بها ، إلى
انتظار .. الخروج.
لا زلت في انتظار .. الليلة المقمرة .. فأنا أبداً لا أخرج في الليلة الظلام.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة