للروائي السوداني عماد البليك، صدرت عن دار «إبييدي بمصر»، رواية بعنوان: «البحث عن مصطفى سعيد»، وهو عنوان يذكرنا بـ«البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، و«البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا. لكن في هذهِ الروايةِ يكون الباحث عن مصطفى سعيد، شخصية أدبية من روايةِ «موسم الهجرةِ إلى الشمال» للطيب صالح التي تحوّلت إلى أيقونة وعلامة فارقة في الأدب العربي.
يكتبُ عماد البليك عن سوداني مغترب في مدينةِ لندن، يتتّبع سيرةَ شخصية روائية بعد أكثر من نصفِ قرنٍ على ظهورها، شخصية غامضة، بقي مصيرها مجهولاً في الروايةِ إثر نهايةٍ مفتوحة، وبقيت حقيقتها مفقودةً في الواقع، حول ما إذا كان مصطفى سعيد ذات يوم رجلاً من لحم ودم أو أنّه مجرد رجلٍ صنعته مخيّلة الطيب صالح؟
من ناحية أخرى، يبدو اعتماد هذا العنوان، مغامرةً جريئة من عماد البليك لأنّ الكتاب قد يصل إلى قارئ لم يقرأ روايةَ موسم الهجرة إلى الشمال أو نسيَ تفاصيلها، وقد لا تعني لهُ الشخصية ما تعنيهِ لقارئٍ من السودان، ولكن مع ما يحملهُ النص من تناص وتقاطعات، فبالإمكان عدّ هذهِ الرواية مستقلّة بذاتها حتى وهي ترتكز على لعبة سردية،على عمل سابق، ويمكن أن تكونَ مقروءةً ومفهومةً بفضل ما أرفقهُ الكاتب من إشاراتٍ واقتباسات، ولعلّها توحي بأنّ البحثَ يدور حول مصطفى سعيد بينما يكمنُ البحث الحقيقي في مكانٍ آخر، كأن يكون عن وطن مثلاً أو عن الذات المشتّتة في المنافي.
السوداني المنسيّ
لا تكتفي الرواية بدور المرآة العاكسة للمجتمعِ، بل كثيراً ما تتحوّلُ إلى مشرحة! فضاءٍ مرعب يستعرضُ فظاعةَ الإنسان ومآسيه وهذا ما نجدهُ في رواية «البحث عن مصطفى سعيد» إذ تنهض بمهمّةٍ مضادة لتهميشِ الحرب على السودان، كما لو أنّ الحرب هنالك مشهد عادي لا يحرّك في الضمائر شيئاً والإنسان الذي يُقتَل أو يهجّر هناك يقل عن غيرهِ أهمية، ما دامت المسألة داخلية! يعبّر الكاتب عن ذلك قائلاً: «تزامناً مع انشغال الإعلام العالمي بحرب غزة، وموجات التصعيد الإيرانية، بدا أنّ حرب السودان أصبحت منسية، رغم أنّ كل أسرة فقدت عزيزاً».
يذكّرنا البليك بمآسي شعبه من خلال شخصية محمود سيد أحمد، السوداني المغترب الذي يترك حياته المستقرّة في الخليج، ويعودُ إلى الخرطوم بدعوة من أصدقائه السياسيين للمشاركة في التغيير والتنمية، ليصطدم بعد وصوله بالفوضى التي لا تشبهُ ما تلقاه من وعودٍ وأمنيات. ويلاحظ فوراً أنّ خطوات الإصلاح المزعومة لا تمضي إلى الأمام، إنّما تتجه إلى الخلف. يصفُ محمود تبدّل حال مدينته ونزوحَ الأهالي إلى الأرياف، يشرّحُ الواقع السياسي وتأثيرهُ القاسي على الناس وما فعلهُ بهم التطرف والتعصّب حتى غدا الحياد خياراً مستحيلاً للأفراد.
ويروي لنا عمّا فعلهُ الجوع والخوف والانتهاك بشعبٍ عُرفَ بطيبته وسخائه ولكنّ الحرب تغيّر الطباع وتجرّد الناس من الرحمة ورأفة بعضهم ببعض. يصبحُ الوطن بالنسبةِ لمحمود جرحاً عميقاً يفوقُ الاحتمال ومرضاً يصعبُ التشافي منه، فيعيشُ حياتهُ في المنفى مثل سمكةٍ تتخبّط بين الحياة والموت، وكأنّ هذهِ الرواية كلّها ليست سوى سرد طويل لذلك التخبط. يصفُ محمود مشاعر الاغترابِ بقولهِ: «أحن إلى بلدي، إلى أهلي إلى ديار ذلك الدفء الذي افتقدته، منذ خرجت من هناك وأنا أعيش كطائر ضليل، كحجر رمي من السماء إلى الأرض، نيزك هوى ولا يعرف طريق العودة إلى الفضاء، تائه، غريب، مشاعري منهوبة، وحياتي أضحوكة».
عطب نفسي
يُحتمَلُ أن يُسبّبَ هذا النص الروائي إرباكاً في بدايتهِ، وقد يتطلبُ أكثر من قراءةٍ لاستيعابهِ فهو مُقسّمٌ إلى ثلاثةِ فصول: سرد ثانٍ يليه سردٌ مفقود وبعده ينطلقُ السردُ الأوّل. ويفتتحُ المؤلف الفصل الأوّل باقتباسٍ لكافكا يوحي بأنّ الحكايةَ التي نحنُ بصددِ قراءتها تبدأُ من المنتصف. من الفقراتِ الأولى، يمكن ملاحظة خلل واضح وتشتّت في الحكي مع تنقلٍ سريعٍ من فكرةٍ إلى أخرى ما يشبهُ التداعي الحُر، رغم أنّ السردَ في الصفحاتِ الأولى يُروى بصوتِ الراوي العليم وليس ضمير المتكلّم، ولكنّ ضمير الغائب هنا يروي من الخارج ليعبّر عن الداخل، ومع التقدّم في القراءة يتضّح أنّ سبب الخلل يتعدى التجريب المعتاد للتقنيات وينبع من الاضطراب النفسي لشخصية محمود سيد أحمد، وهو مثقف سوداني مدمن على الكحول لـ«الهروبِ من مأزقهِ الشخصي»، ونتيجة لإدمانه، أصبح يعاني من هلوسات تشوّش تفكيره. لذا تصبح الفوضى السردية هنا مبرّرة وتتجاوز التقنية حدود التجريب إلى تخطيط دقيق مكتمل بالبناء النفسي. ونتيجةً لذلك ينطلق الزمن متعرجاً، يتقدّم ويتراجع باستمرار بين الذاكرة والتأملات الآنية ليغدو زمن الحكاية صورةً عن اضطراب الوعي وتشظي الذات، حيث ينعكس عطب محمود النفسي على مستوى البنية ويخضع السرد لأعراض الانشطار الذاتي الذي تعاني منه الشخصية.
متاهة متشعّبة
يظهر مصطفى سعيد في الرواية كنموذج للسوداني المغترب الذي يعودُ دائماً إلى السودانِ خائباً كأنّه مصير مشترك للسودانيين المثقفين المغتربين، نموذج يجعلُ كلّ من يعايشه يرى نفسهُ في صورةِ تلك الشخصية المتخيّلة، وبالنسبة لمحمود سيد أحمد، فإنّ التماهي مع مصطفى سعيد يبلغ أقصى حدوده، يتقمّصه ويتمسّك بأيّ خيط يقوده إلى حقيقةِ هذهِ الشخصيةِ الغامضة. يجدُ محمود نفسهُ أمام مصادفاتٍ غريبة، كأن يتعرّف في المصحة على جارٍ دبلوماسي يحمل الاسم ذاته: مصطفى سعيد، ويستنتجُ بأنّه حفيد الشخصية المتخيّلة فيُصادقهُ ويُغرمُ بابنتهِ، كل هذا في طريقه إلى معرفةِ الحقيقةِ الكاملةِ عن الجدّ. في المقابل، يسعى محمود للقاءِ روائيٍ سوداني مغترب في رواية تحملُ عنوان «البحث عن مصطفى سعيد». وهكذا يأخذنا عماد البليك في متاهةٍ متشعّبة مع مرضى نفسيين من الصعبِ الوثوقِ في اعترافاتهم، تختلط الحقيقة بالخيال ويتداخل الواقع مع الوهم، فمحمود سيد أحمد يروي لكنّه سرعان ما يتراجع، يقول ويشكّك في صحةِ قوله، إذ يبدو الواقع ضبابياً أمام عينيه والأفكار مشوّشة في ذهنه. وبسبب هذا لا يتردّد في الهمس بأنّ تلك الشخصية التي حاورها تكذب أو تتوّهم أو ربما ليست موجودةً من الأساس. يتساءل على سبيل المثال في ص169: «تصبح كل التفاصيل مجرد ظنون، والذات نفسها أكذوبة كبيرة، فأنا أيضاً تلك الأكذوبة، وجاري هو كذلك. يجب أن أنسى هذا الجار وكذلك ابنته تلك المجنونة، الأكذوبة الأخرى».
تتعدّد الأبعاد في رواية «البحث عن مصطفى سعيد» بين بعدٍ وجودي يسلط الضوء على أزمة محمود سيد أحمد وتأثره بشخصيةِ مصطفى سعيد، وبعدٍ سياسي يركّز على الوضع الراهن في السودان، وبعد نفسي يتوغّل في اضطراباتِ الراوي ويحوّلها إلى أداة سردية ذات طابع تجريبي تميّزت به روايات ما بعد الحداثة. وتختتم الرواية بنهايةٍ عدمية على مقاسِ العبث الذي يطغى على العالم وما يحمله من قسوةٍ وظلم وتعصّب. ربما وجد محمود سيد أحمد مصطفى سعيد بطريقةٍ ما، لكن من دون أن يجد نفسه أو وطنه.
سارة النمس
الشرق الأوسط
المصدر: صحيفة الراكوبة