«التحالف المحظور».. هل يفك البرهان ارتباطه بالإسلاميين قبل فوات الأوان؟
أحمد عثمان جبريل
“ما أكثر الحروب التي تبدأ باسم الله، وما أقلّها التي تنتهي برضاه.”
عبد الرحمن الكواكبي
منذ أن استحال السودان إلى ساحة تتكالب عليها الأجندات وتتمزق على ترابه خرائط النفوذ، لم يعد بالإمكان قراءة الأحداث منفصلة عن السياق الإقليمي والدولي، ولا يمكن فهم التصعيد الأخير دون العودة إلى بيان “الرباعية الدولية” الصادر أمس الأول، والذي مثّل تأنيبًا مبطّنًا للجنرال عبد الفتاح البرهان، وتحذيرًا صارمًا لأي تحالف يعيد رموز النظام السابق إلى سدة التأثير، ولو عبر بوابة “الضرورة العسكرية”.
وسرعان ما كانت رده فعل الإسلاميين عليه سريعا.. إذ لم يمضِ على البيان سوى سويعات حتى أصدرت الحركة الإسلامية السودانية ردًا شديد اللهجة، تتهم فيه الرباعية بالتدخل السافر، وترفض ما وصفته بـ”الوصاية الخارجية”.. هذا الرفض لم يكن مجرد تعبير سياسي، بل كان بمثابة كشف أوراق اضطراري لحركة لطالما آثرت العمل من الظلال، واتخذت من الجيش مظلة للعودة التدريجية إلى المشهد، مستغلة حالة الاستقطاب والانهيار.
جاء بيان الرباعية (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات) محمّلًا بلغة غير معتادة في الدبلوماسية الكلاسيكية، إذ بدا وكأنه أقرب إلى التوبيخ السياسي منه إلى الدعوة التوافقية.. وقد لوحظ انضمام مصر إلى هذا البيان الرباعي، في تشكيلة تُعبّر عن تحوّل ملحوظ في مقاربة الأزمة، بعد أن كانت، مصر جزءًا فاعلاً في معسكر (البلابسة) رفقة الجيش.. والمملكة المتحدة، كذلك جزءًا فاعلًا في بيانات الرباعية السابقة.
هذا التبدّل، وإن لم يُعلن رسميًا كإحلال، إلا أنه يعكس تغيُّرًا في التقديرات الإقليمية، وربما في توزيع الأدوار بين العواصم المؤثرة في الملف السوداني.
فقد رفض بيان الرباعية بلغة صريحة أي دور للإسلاميين في مستقبل السودان، ثم قدم دعوة مباشرة للجيش بأن ينأى بنفسه عن التحالفات التي تعيق التسوية السياسية، في إشارة لا تخطئها العين إلى ما يُشتبه أنه عودة تدريجية للإسلاميين عبر الواجهة العسكرية.. فقد عكس البيان خشية الرباعية من أن يكون البرهان بصدد إعادة إنتاج النظام السابق بثوب مختلف، وهو ما تعتبره هذه القوى خطًا أحمر، قالت صراحة:” لن يُسمح بتجاوزه”.
وكما جاء بيان الرباعية واضحا وصريحا، جاءت كذلك ردة فعل الحركة الإسلامية، غاضبا، إذ لم يكن مجرد تسجيل موقف، بل كان انعكاسًا واضحًا لشعورها بالتهديد الوجودي.. فهذه الحركة التي لفظها الشارع منذ ثورة ديسمبر المجيدة، ثم أقصتها الوثيقة الدستورية لاحقًا، تحاول الآن التسلل مجددًا عبر بوابة الجيش، بعد أن فشلت في إيجاد حاضنة جماهيرية.. لذا جاء بيانها الصاخب كمن يدرك أن لحظة الحسم قد اقتربت، وأن المناخ الإقليمي والدولي يتجه نحو تسوية لا مكان فيها لـ “صُنّاع الخراب”.
في خضم هذا كله، يبدو أن الجنرال عبد الفتاح البرهان يقف على مفترق طرق حرج.. فالرجل، الذي خبر دهاليز السلطة واحتفظ بخيوط اللعبة العسكرية لسنوات، يواجه الآن تحديات من نوع مختلف.. الضغوط الدولية تتزايد عليه بوضوح، والإشارات الأمريكية ليست قابلة للتأويل: “لا مستقبل لمن يراهن على الإسلاميين”.. وفي المقابل، فإن بعض أجنحة الجيش ما زالت ترتكز على إرث العلاقة مع النظام السابق، وإن من حيث التكوين الفكري، أو شبكات المصالح داخل المؤسسة الأمنية والاقتصادية.
البرهان، إذًا، محكوم بلعبة توازن مستحيلة؛ إن انحاز للضغوط الدولية، خسر دعمًا داخليًا مهمًا، وإن تشبث بتحالفه الضمني مع الإسلاميين خسر اعترافًا دوليًا هو بأمس الحاجة إليه.
لكن المسألة لم تعد مجرد حسابات سياسية، بل دخلت طور الاستحقاقات المصيرية.. إذ أن الولايات المتحدة، وهي صاحبة الكلمة الأثقل في الرباعية، لم تكتف هذه المرة بالتحذير، بل صرحت تصريحا خطيرا وبعبارات واضحة المعنى لا لبس فيها قائلة:” سنتخذ كافة الإجراءات لضمان عدم عودة الإسلاميين إلى الحكم”.. وهذا يعني ضمنًا فرض عقوبات محتملة، وتعطيل أي مسار تسوية يُعتقد أنه يُدار من وراء ستار الحركة الإسلامية، بل وربما الذهاب بعيدًا نحو دعم بدائل للجيش نفسه، سواء من داخل المؤسسة، أو من القوى المدنية.
أعتقد انه وفي رأي المتواضع، وعلى ضوء هذه التحولات، تبدو السيناريوهات مفتوحة على احتمالات شديدة الحساسية.
أولها أن يذعن البرهان لضغوط الرباعية، ويفك ارتباطه التدريجي بالحركة الإسلامية، سعيًا لتخفيف العزلة الدولية وإعادة تموضعه في مشهد أكثر قبولًا دوليًا.
وهذا السيناريو، رغم صعوبته، إلا أنه، الأكثر واقعية إن استمرت المؤشرات الاقتصادية والسياسية في التدهور، إلا أن هذا الخيار سيواجه مقاومة داخلية، وقد يؤدي إلى تصدعات داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وربما إلى رد فعل عنيف من الإسلاميين الذين يدركون أن أي تسوية لا تشملهم قد تكون بمثابة “الدفن الأخير”.
أما السيناريو الثاني، وهو الأسوأ على المدى البعيد، فهو تمسك البرهان بتحالفه مع الإسلاميين، ومحاولة كسب الوقت عبر المناورة.. هذا الطريق، وإن منحه، برفقة الجيش مكاسب تكتيكية في المدى القريب، إلا أنه سيقود حتمًا إلى عزلة إقليمية ودولية خانقة، وربما إلى انفجار داخلي غير قابل للسيطرة، خاصة إذا قررت الرباعية دعم جبهات موازية، عسكرية أو سياسية.
ويبقى الاحتمال الثالث الأقل نضجًا بعد، لكنه ممكن وهو بروز قيادة عسكرية جديدة تنقلب على البرهان من الداخل، أو تتشكل كتلة مدنية قوية قادرة على إعادة تنظيم الشارع، بدعم إقليمي خفي أو ظاهر. وإن بدا هذا السيناريو مؤجلًا، إلا أن انسداد الأفق قد يجعله أكثر احتمالًا مما نظن.
بقى ان نقول: أن الأمور تبدو أنها تسير بتطور دراماتيكي.. وهذا يحتم علينا أن نقول: هذا الشعب الأبي تعب من تجريب الخرائط في دولته، و لا يحتاج اليوم إلى مزيد منها، بل إلى بوصلة أخلاقية تعيد تعريف معنى الدولة، وتفكّك الارتباط المزمن بين البندقية والسلطة، وتُنهي إلى الأبد وهم العودة إلى ماضٍ لم يخلّف سوى الجراح والمآسي والتشظي .. أما البرهان، فإن لم يُحسن قراءة هذه اللحظة التاريخية، فسيكتب اسمه في دفتر الحكام الذين أُغروا بالقوة وهو الوحيد من بينهم الذي قال صراحة:” المجد للبندقية” فعزلهم التاريخ، ولم تشفع لهم لا البنادق ولا البيانات.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير