اماني أبو سليم
المحاولات البائسة للأنظمة العسكرية والدكتاتورية في العموم للتجمّل بادعاء حكوماتٍ مدنية، أو صناعة أحزابٍ وأجسامٍ تُحرَّك كالدمى، وغيرها من المظاهر المدنية للحكم، هي انتصارٌ حقيقيٌّ للمدنية؛ لأن هذه الأنظمة بسوءها أن تظهر على حقيقتها القبيحة، فتخرج على الناس بمكياجٍ يدّعي المدنية، لا يُغطي تشوّهًا أو عِلّة.
النضال استمرّ بطول التاريخ، حتى القرن الثامن عشر، لتصل الشعوب إلى نظام الحكم المدني، حيث تُفوّض السلطة من الشعب عبر الانتخابات والتمثيل الحقيقي. فبينما تُؤخذ السلطة في الأنظمة العسكرية بالقوة، وتورَّث في الملكيات، ويُدَّعى فيها حقٌّ إلهيٌّ في النظم الدينية، جاء الحكم المدني تعبيرًا عن إرادة الشعوب وسعيها للعدالة والمساواة. إنه التطور الإنساني الذي أنهى استغلال الشعوب وفتح الطريق أمام توزيعٍ عادلٍ للثروات، إذ يتحول الحاكم من مالكٍ للبلاد إلى موظفٍ عام يخضع للمساءلة أمام برلمانٍ حقيقي يمنع تغوّل السلطة واحتكارها.
السودان، في مسيره، يثبت وعيًا متقدّمًا بما وصله الوعي الإنساني من فهمٍ لما يجب أن يكون عليه نظام حكمٍ عادلٍ يرعى حق الجميع في التمتع بخيرات البلاد. فمرض حكم الفرد وبطانته من أهل المصالح، مرضٌ متجذّر في البشرية؛ والتخلّص منه يتطلب الوقوف والمواجهة بعد كل سقطة، وإن طالت… وإن طالت لأكثر من ثلاثين عامًا.
فشل أو تعثّر الحكومات المدنية لا يعني عدم ملاءمتها، ولا يبرّر اتخاذه ذريعةً لنبذها أو محاربتها، بل هو دافعٌ لدعمها وتقويتها لتتطور نحو تمثيلٍ حقيقيٍّ للشعب. فالأمر ليس خيارًا بين حكم الفرد أو العسكرية من ناحية، والحكم المدني من ناحيةٍ أخرى؛ بل هو تثبيتٌ لخطى المدنية، لأنها الطريق لضمان حقوق المواطنة والحق في ثروات البلاد. كل عثرةٍ أو ميلٍ أو ضعفٍ فيها هو أدعى لدعمها لا لنبذها وتفضيل العسكرية والفرد، لأن المدنية خيار الشعوب الذي أثبته التاريخ.
الأحزاب السودانية نشأت تحت تضييق الاستعمار في منتصف الأربعينات، أي واحدٍ وثمانين عامًا حتى الآن، لم تمارس فيها عملًا سياسيًا داخل البلاد بحريةٍ تتيح لها الخبرة والدُّربة، إلّا ثلاثة عشر عامًا متقطّعة، أطولها لم يتجاوز الخمس سنوات.
لقد منحتنا الحرب، على بشاعتها، فرصةً لإعادة الوعي، والنظر إلى الأمور بمنظارٍ بعيد المدى، لا بعين الغالب والمغلوب في لحظةٍ آنية. فالأحزاب، رغم ضعفها وهشاشتها، هي أساس التجربة المدنية، والخطوة الأولى نحو حكمٍ يمثّل الشعب. من يشتمونها لا يدركون أنها البذرة الأولى لأي حياةٍ سياسيةٍ راشدة، وأن نقدها الموضوعي هو السبيل لتطورها، لا هدمها أو إلغاؤها.
فلتتجاوز شخصنة القضية وحصرها في أفرادٍ هم مجرّد أشخاصٍ في تجربةٍ، على طريقٍ سيمتدّ من التجارب حتى الوصول.
لن تجدي مظاهر التجمّل في خداع أحد، ومحاولات الخداع ليست إلا اعترافًا خفيًا بأنه لا بديل للحكم المدني. فالتاريخ يمضي في اتجاهٍ واحد: نحو حكم الشعب لنفسه، نحو دولةٍ مدنيةٍ تقوم على المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص.
تُضيّع زمنًا غاليًا، نخسر فيه أرواحًا أغلى، وأنت تتردّد في دعم المدنية والسلام. من يقف ضد هذا التيار لا يوقفه، بل يتأخر عنه.
من الافضل السير معه، لنحجز للبلاد مكانًا في مستقبلٍ تستحقه.
نقلاً عن جريدة ديسمبر
المصدر: صحيفة التغيير