حسن عبد الرضي

التجارب التي لا تُثمر وعياً تُعيد نفسها في شكل مأساة، ثم في شكل ملهاة. وما نراه اليوم في السودان ليس إلا تكراراً لتجربة قديمة تجربة جُرِّبت ألف مرة، وأثمرت خراباً كل مرة، ومع ذلك لا يزال البعض مصرّاً على خوضها من جديد وكأنهم ينتظرون نتائج مختلفة.

لنبدأ من النقطة التي يهرب منها الكثيرون: طالب المناضلون والثوار بحلّ قوات الدعم السريع منذ عام ٢٠١٣، وما زالوا يطالبون بذلك. إننا لا نُخطئ الهدف حين نوجّه نقدنا إلى من يستحق النقد، وليس للدعم السريع فحسب، لأن الدعم السريع مهما بلغ من القوة والبطش فهو مجرد ظاهرة، لا أصل، والظواهر تزول بزوال أسبابها. أما الأصل، الجذر، المرض الذي أنجب هذه الظواهر كلها، فهو ما نسميه صادقين الحركة “اللا إسلامية”، تلك الجماعة التي أكلت قلب الوطن ونهبت روحه، ثم زيّنت للناس الباطل بلباس الدين. ولنتأمل من أين جاء كل هذا الخراب؛ فلا بد أن نعود قليلاً إلى الوراء، إلى بداية الطريق حين استلم الإسلاميون السلطة بانقلاب ١٩٨٩. هؤلاء هم من سوقوا حرب الجنوب على أنها حرب “دينية”، فحصدوا بأيديهم أكثر من مليوني روح من أبناء الجنوب، ثم باعوا دماء مقاتليهم في سوق السياسة الرخيصة، حتى إن زعيمهم الترابي قد نعت مقاتليهم بالـ”فطائس” بدلاً من شهداء، بعد أن اختلف اللصوص.

ثم لم يتعلموا شيئاً بعد اتفاقية السلام الشامل عام ٢٠٠٥. بل فصلوا، بقوة عين، ثلثا عزيزا اخضر من سوداننا. وبدلاً من أن يعتذروا للشعب ويكفّروا عن جرائمهم، اتجهوا غرباً وصنعوا المليشيا الأولى (خليل إبراهيم)، ثم الثانية (موسى هلال)، ثم الثالثة (الدعم السريع). وهكذا ظلّ الغرب السوداني ساحة تجارب لجنون الإسلاميين: قتال فَهْدنة، تمرد فمصالحة، وزير سابق يصبح زعيم مليشيا، وقائد مليشيا يصبح مساعداً للرئيس، ثم والٍ ولاية! فتأملوا هذا العبث.

قاتلوا خليل إبراهيم ثم استعانوا به. قاتلوا مناوي ثم عيّنوه مستشاراً. قاتلوا مالك عقار ثم تحالفوا معه فأصبح والياً ثم نائباً لرئيس مجلس السيادة. قاتلوا موسى هلال ثم أخرجوه ليقاتل معهم.

واليوم يقاتلون الدعم السريع بنفس المنهج، بنفس الخطاب، بنفس الكذب. فهل نحتاج إلى نبوءة جديدة لنفهم أن هؤلاء سيعيدون إنتاج مليشيا جديدة بعد سنوات، باسم جديد، وراية جديدة، ولكن بنفس الفكرة القديمة؟

إنهم العدو الحقيقي. ولنكن واضحين بلا مواربة: الدعم السريع. العدو ليس هو العدو، العدو الحقيقي هو الذي صنع الدعم السريع. هو الذي شرّع له قانوناً، ومكّنه، واستخدمه في حروب الإبادة. هو الذي صنع موسى هلال وخليل إبراهيم وكيكل وحميدتي وغيرهم.

العدو الحقيقي هو الحركة اللا إسلامية مفرخة المليشيات ومصنع الخراب. والمعركة الحقيقية هي المعركة معها، لا مع أدواتها. فما الدعم والمليشيات إلا ظلّ، والظل يزول بزوال الجسد الذي أوجده. وها هو جيش السودان العظيم يصبح ضحية أخرى.

المأساة الأكبر أن الكيزان لم يكتفوا بتفريخ المليشيات، بل حوّلوا حتى الجيش الوطني نفسه إلى مليشيا حزبية، مسخوه وأفرغوه من عقيدته الوطنية. الجيش الذي كان يوماً مدرسة للانضباط والشرف، صار اليوم أداة بيد فئة متسلطة، ترفع شعار “الكرامة” بينما تبيع كرامة الوطن في سوق التحالفات والمصالح.

والمصيبة الحقيقية، اليوم، وتحت صدمة ما جرى في الفاشر، رأينا بعض البلابسة يطلقون دعوات مقاطعة اجتماعية لدعاة السلام! أي عبث هذا؟ هل تركتم للسلام موطئ قدم أصلاً؟ ألستم أنتم من خوّن دعاة وقف الحرب؟ ألستم من يطاردهم ويهددهم بالويل والثبور لأنهم تجرأوا على قول “كفى حرباً”؟

ومشكلتكم أيها السودانيون المغرر بكم أنكم حين تُتألمون، تهيجون في الاتجاه الخطأ، فبدلاً من مواجهة من غشّكم، تصبّون غضبكم على من يختلف معكم في الرأي. فلا بد من كلمة للمواطن المغلوب: أيها المواطن المسكين، وجّه غضبك حيث يجب: على من خدعك وسوّق لك أن هذه حرب “كرامة”. أين الكرامة الآن؟ كل يوم الكرامة في النازل، وأسباب الحياة في الطالع، والصحة في النازل، والمرض في الطالع، والإنسانية في النازل، والجوع في الطالع. فأنكم حين تبكون على الفاشر اليوم فذلك مشهد من الكوميديا السوداء. الفاشر محاصرة منذ عامين، وإنسانها يموت بالجوع والمرض والقصف، ولم تتحرك فيكم نخوة ولا إنسانية. وكنتم تأكلون وتشربون وتغنون، ومخادعوكم يسافرون إلى تركيا والقاهرة ويشترون الفلل والقصور ويتزوج ابناؤهم ويقيمون الحفلات الصاخبة بالمناضلة “ندى القلعة” بينما يموت الناس بصمت، والآن تبكون بعد أن وصل الخراب إلى أبوابكم.

وفي خاتمة المقال يجدر أن نقول: الدعم السريع سيزول لأنه ظاهرة استثنائية في دولة مأزومة. لكن ما لم نُواجه أصل الأزمة، الحركة اللا إسلامية، فسنظل ندور في ذات الحلقة الجهنمية. والحكمة التي لم نتعلمها بعد هي أن التجربة التي لا تثمر وعياً ستتكرر حتى تفنينا جميعاً.

فلنبدأ المعركة الحقيقية: ضد الكذب باسم الدين، وضد صناعة المليشيات باسم الوطن، وضد الحرب باسم الكرامة. أما الذين يهربون من مواجهة الحقيقة، فسيجدون أنفسهم كما في كل مرة يلعنون نتائج أفعالهم، دون أن يجرؤوا على النظر في أصل الخطيئة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.