أحمد عثمان جبريل

في صباح السودان المشتعل، حيث الشمس تكاد تنزف ضوءها فوق أسطح مدنه التي يكسوها البؤس والمعاناة، وقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان أمام كبار ضباط الجيش السوداني.. كانت القاعة، المزدحمة بالوجوه المنتظرة، كأنها “ساحة حرب من الصمت والنبض المتسارع، قلقلةً على مستقبل السودان الذي بات مجهولا تماما واحلامه مؤجلة بعد سماعهم حديث قائد الجيش .. فكل حركة للبرهان، كل رفرفة ليده، وكل صمت قصير بين الكلمات، كانت إشارة حيّة لتاريخ ممتد من المراوغات، القرارات المفاجئة، والهجمات السياسية المباغتة.

يقول أبو حيان التوحيدي ذات صفاء «اللغة وسيلة لا تخدع، بل تكشف عن أعمق ما في النفس والمجتمع.» .. وقد كشفت لغة البرهان كل ما في الأنفس التي تدير القرار السوداني .

(1)
مع انطلاق كلماته، شعر الحاضرون بأن”التاريخ يعيد نفسه في مشهد حي”.. نبرة الهجوم، الاتهامات المباشرة، والإصرار على رفض أي تدخل خارجي، أعادت إلى الأذهان سنوات النظام السابق، لكن بصوت أعنف وأكثر حدة. البرهان استعار “لسان البشير والإسلاميين” ليهاجم الغرب، بينما ينكر وجودهم داخل الجيش. هذا التناقض صارخ، لكنه كشف بوضوح أسلوبه البراغماتي الموروث الذي ورث السودان سنوات من المراوغات والفوضى السياسية والهلاك.

(2)
الهجوم على مبعوث ترامب مسعد بولس لم يكن رفضًا دبلوماسيًا عابرًا، بل نسف كامل لكل جهود الرباعية السابقة.. بسطر واحد، أعلن البرهان أن كل اتفاقات جدة، والمنامة ولقاءات جنيف وواشنطن وبروكسل. وكل الخرائط التفصيلية لوقف النار، بإختصار كل تفاهمات الرباعية، أصبحت بلا قيمة.. هذه الكلمات أعادت السودان إلى (المربع صفر السياسي) ووضعت كل القوى الدولية أمام حقيقة واحدة: أي خطة خارجية ستصطدم بجدار إرادة الجيش وحده.

(3)
توقيت حديثه عن الإسلاميين كان محوريًا واستراتيجيًا، فقد جاء مترافقا مع اللحظة نفسها التي يتجه فيها ترامب لإعلان تصنيفهم تنظيمًا إرهابيًا؛ تحدث البرهان عنهم وكأنهم فزاعة وقال أنه يسمع عن وجودهم داخل الجيش في الإعلام ونسيى او تناسى حديثه القريب عنهم بأنه لن يسمح لهم بركوب ظهر الجيش ما يكشف هنا، عن “مهارته في تحويل أي حدث دولي إلى أداة سياسية لمصلحته الفردية”، وإعادة تشكيل المشهد السياسي وفق مزاجه، تاركًا الشعب يدفع ثمن هذه الاستراتيجيات المراوغة.

(4)
استعارة لغة الإسلاميين للهجوم على الغرب، مع إنكار وجودهم داخل الجيش، تخلق تناقضًا واضحًا وسخرية ضمنية.. الشعب يلاحظ كيف يُعاد إنتاج سرديات قديمة، بينما الواقع على الأرض مختلف تمامًا. هذه المراوغة ليست صدفة، بل امتداد لتاريخ طويل من القرارات المزدوجة التي جعلت السودان أسيرًا للأزمات المتراكمة.

(5)
الهجوم على الإمارات وتأكيده للنفوذ الإقليمي في التمويل الخفي للتمرد، اراد البرهان من خلاله القول أن أي مبادرة تشمل أبوظبي فقدت مصداقيتها بالكامل، وأن الوساطة (الأميركية السعودية) نفسها مشبوهة بسبب هذا الانحياز، خاصة وانها رافعة قوية للرباعية.. ما يعني ان كلماته لم تكن مجرد خطاب، بل “إعلان حرب سياسية ضمنية” يوضح أن السلطة المطلقة في السودان تحت سيطرة الجيش وحده.

(6)
عبارة “الوساطة غير مبرأة للذمة” ليست وصفًا دبلوماسيًا عابرًا، بل تصريح سياسي شديد الوضوح، خاصة عند قوله وورقته غير مقبولة وهنا يعني مبعوث الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية والعربية مسعد بولس، ليقول ضمنا:” أي خطة خارجية لا تتوافق مع إرادتي تُرفض، وكل وساطة تُعاد إلى المربع الأول”. هذا النهج البراغماتي المستمر يظهر أن قراراته غالبًا ما تعكس مزاجه الشخصي، وليس خطة وطنية واضحة، تاركًا الشعب يواجه نتائج هذه السياسات المراوغة المستمرة منذ سنوات.

(7)
لقد استطاع البرهان بذلك الحديث نقل النزاع من “غرف التفاوض المغلقة إلى وعي الرأي العام” .. إنه تكتيكً محكم : “الجيش هو الحارس الوحيد للقرار، الإسلاميون مجرد أطياف، الغرب عاجز عن فرض إرادته.. و بهذه الحركة، أعاد البرهان رسم المشهد السياسي وفق إرادته المطلقة، دون مراعاة مصالح وطنية حقيقية، مؤكدًا أن أي ضغوط خارجية لن تثنيه.

(8)
استطيع القول هنا ان البرهان نسف كل جهود الرباعية وإعاد السودان بذلك إلى المربع صفر، وان هذا لم يكن مجرد رفض ورقة، بل كشف شامل لمراوغات البرهان المستمرة على مدار سنوات: ازدواجية الكلام، التناقض في المواقف، استعار لغة الآخرين لتبرير قراراته المرحلية، ومن ثم ترك الشعب يدفع الثمن..
كل خطوة خارجية محسوبة وفق مزاجه، وكل اتفاق يُرفض إلا إذا عزز سلطته، مما جعل السودان هشًا أمام الضغوط الداخلية والخارجية.

(9)
في خاتمة المشهد، بدا واضحًا أن السودان أمام مرحلة فاصلة ومصيرية، فقد كشف البرهان الوجه الحقيقي للسياسات المراوغة، استعان بلغة الإسلاميين، نسف كل جهود الرباعية، هاجم الإمارات، وأكد أن الجيش هو الحاكم الفعلي والوحيد للبلاد.. أعاد السودان إلى المربع صفر، وأوضح أن أي محاولة لإعادة الاستقرار السياسي أو العسكري ستصطدم بعقبة إرادته الفردية، وأن الشعب سيظل يدفع الثمن، كما دفع عبر سنوات طويلة من المراوغات، الأزمات المتراكمة، والسياسات الفوضوية التي ورثها عبر سنوات قيادته.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.