أحمد عثمان جبريل

في اليوم الذي اختار فيه الفريق عبد الفتاح البرهان أن يكتب مقاله في صحيفة وول ستريت جورنال، بدا وكأنه يمدّ يده إلى واشنطن ليطلب منها شهادة براءة سياسية، بينما يده الأخرى ما تزال مغطاة بغبار الحرب التي أشعلتها حساباته الضيقة. كتب مقاله محاولًا إعادة تدوير نفسه في نظر العالم، لكنه في الحقيقة لم ينجح إلا في إطلاق النار على قدميه، كاشفًا مدى هشاشة روايته، وتآكل شرعيته، وتورطه العميق في إنتاج المأزق الذي يعيشه السودان اليوم.

حين يضيق العقلُ عن مواجهة الحقيقة، يهرب إلى تزييفها

 أبو حيان التوحيدي

(1)

بدأ المقال محاولة لإعادة رسم صورة البرهان كـ«رجل دولة» يقود معركة وطنية ضد ميليشيا متمردة، لكن هذه السردية تنهار تماما بمجرد مقارنتها بالمسار السياسي الذي سبق الحرب.. فالبرهان هو ذاته الذي عطّل عملية الانتقال المدني، وأجهض الاتفاق السياسي الإطاري، وفتح الباب لتمدد الإسلاميين داخل الجيش.. تجاهل هذه الحقائق في مقاله ليس ذكاءً سياسيًا، بل تأكيداً على أن الرجل يهرب من ظله.

(2)

يقدّم البرهان الحرب كقدر محتوم اضطر إليه الجيش، بينما يعلم السودانيون أن الشرارة الأولى سبقتها شهور طويلة من المناورات والمماطلات في ملف الإصلاح الأمني والعسكري.. تجاهل هذه الحقيقة الواضحة في مقاله هو شكل من أشكال التزوير الأخلاقي؛ فالحرب لم تكن قدَرًا، بل خيارًا صنعته قيادة لا تريد إعادة هيكلة جيش فقد استقلاله لمصلحة دولة موازية يقودها الإسلاميون.

(3)

الواقع ان ذلك المقال الذي احتفى به أبواق الكيزان، مكتوب بلغة علاقات عامة مصقولة، لا تشبه الرجل ولا خطابه السوداني المعتاد.. بدا وكأن إحدى شركات (لوبي الضغط) في واشنطن هي التي كتبت النص، ونقحته بعناية ليتوافق مع المزاج الأميركي.. لكنه رغم ذلك، فشل في استيفاء الحد الأدنى من الإقناع؛ لأن واشنطن تعرف جيدًا ما يحدث داخل الجيش، وتملك معلومات تفصيلية عن حجم نفوذ الإسلاميين، وعن طبيعة قرارات البرهان. لذلك، فإن المقال لم يخاطب وعي الأميركيين بقدر ما كشف أزمة قائله.

(4)

لقد تجاهل البرهان في مقاله، حقيقة أن الجيش لم يعد مؤسسة وطنية صافية، بل أصبح رهينة جماعة ظلت لعقود تتغلغل في مفاصله، وتعيد تشكيله لخدمة مشروعها الأيديولوجي.. وهذا التجاهل بحد ذاته لم يكن سهوًا، بل حسابًا سياسيًا بائسًا يظن أن الغرب ربما يغض الطرف عن الإسلاميين مقابل إضعاف الدعم السريع.. لكن الغرب لم يعد يشتري هذه المقايضات الرخيصة، ولا يقبل إعادة تدوير نفس القوى التي أسقطتها ثورة ديسمبر العظيمة.

(5)

محاولة البرهان تحميل الدعم السريع كامل مسؤولية المأساة السودانية ليست سوى نصف الحقيقة، والنصف الآخر أخفاه عمدًا (غياب القيادة، وارتباك القرارات العسكرية، وانقسام المؤسسة، وفشل تقدير اللحظة السياسية). فالحرب لم تكن لتبلغ هذا المستوى من الوحشية لو كان الجيش موحدًا، ولو كانت هناك قيادة سياسية وعسكرية مسؤولة.. لذلك قدم البرهان نصف الحقيقة، لأنه يعلم أن ذكر النصف الآخر كفيل بتحويل مقاله إلى اعتراف مدوٍ وخطير.

(6)

المقال قدّم رسالة مبطّنة مفادها أن الجيش يقاتل «بالنيابة عن العالم» وهي العبارة التي فقدت قيمتها منذ زمن طويل.. ففي نظر المجتمع الدولي، الحرب في السودان ليست معركة قيمية بين (الخير والشر) بل نتيجة مباشرة لصراع نفوذ داخل مؤسسة مأزومة.. بهذا المعنى، فإن محاولة البرهان وضع نفسه في موقع «حامي الديمقراطية» ليست فقط محاولة مضحكة، بل إهانة لوعي السودانيين الذين يعرفون تمامًا من أفشل ديمقراطيتهم الوليدة.

(7)

الخطير في المقال ليس ما قاله البرهان، بل ما حاول إخفاءه وهو: “خوفه من العزلة الدولية، فقدانه السيطرة الداخلية، وتراجع رصيده داخل الجيش نفسه”.. بدل الاعتراف بهذه الحقائق، اختار مهاجمة خصومه، والتظاهر بأن العالم لا يرى ما يجري.. لكنه بهذا الأسلوب، كشف أكثر مما ستر، فقد بدا كرجل يكتب من زاوية أنه يعاني من حصار سياسي، لا من موقع قوة.

(8)

أما بالنسبة للقارئ السوداني، المقال يُقرأ بوصفه حلقة جديدة في سلسلة «الهروب من المسؤولية» التي مارسها البرهان منذ انقلاب أكتوبر.. وهو اليوم، بعد أن أوصل البلاد إلى واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، يحاول أخيرًا أن يقدّم روايته للعالم.. ولكن من كتب المقال لا يعلم أن الوعي السوداني أصبح قادرًا على فرز الروايات، وتمييز من يخدم البلاد ممن يخدم مصالح بقايا الدولة العميقة.. لذلك يمكن القول إن مقاله لن يغيّر وعي الداخل، لكنه سيُستخدم كدليل إضافي على إخفاق قيادته.

(9)

بقي أن نقول في محصلة كل ذلك أن (المقال الضجة) لم يكن إعادة تموضع استراتيجيًا كما أراد كاتبه، بل سقوط أخير في اختبار الصدق السياسي.. أراد به البرهان أن يظهر كقائد يملك رؤية، فإذا به يكشف أنه يملك فقط خوفًا متصاعدًا من فقدان الاعتراف الدولي.. أراد أن يقدّم نفسه كحامي السودان، فإذا به يثبت أنه أحد أبرز صانعي المأساة..

لقد كتب مقاله ليقنع العالم، لكنه أقنع السودانيين بأن الرجل الذي يدير البلاد اليوم لا يطلق النار على خصومه فقط، بل يطلق النار على قدميه، ويمضي في السير بقدمين تنزفان. إنا لله ياخ.. الله غالب

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.