دكتور الوليد آدم مادبو

“الجبناء يموتون مرات قبل موتهم، أما الشجعان فلا يذوقون الموت إلا مرة واحدة.” ـــ وليام شكسبير (هاملت)

في كل المحطات التاريخية الحرجة يظهر قائد يصوغ مصير شعبه، أو ينكفئ ليصبح ظلاً تافهاً في دفتر التاريخ. عبد الفتاح البرهان اختار الدور الثاني. فالرجل لم يجرؤ منذ اندلاع الحرب على اتخاذ موقف صريح يحسم خياراته؛ بل ظل رهينة التردد، يلوذ بالصمت حين يستلزم الموقف كلمة، ويهرع إلى التسويات المبتورة حين يتطلب الموقف إرادة صلبة.

لقاؤه الأخير مع المبعوث الأميركي في سويسرا لم يكن سوى حلقة جديدة في مسرح العبث السياسي: لقاء محجوب عن شعبه، غارق في التسريبات، ومفتقر إلى الشفافية. ومع ذلك، تهافت الإسلاميون ــ وعلى رأسهم المجرم علي كرتي ــ ليصنعوا من اللقاء مادة للتخويف والابتزاز: إن خرج البرهان عن خطهم، فمصيره الاغتيال السياسي، وربما الجسدي. هكذا صار “القائد العام” مجرد أسير لدى جماعة تتغذى على الدم وتسترهن الوطن بكليته لمشروعها المتهالك.

ولعل أكثر ما يثير السخرية أن البرهان ــ الذي لم يسجّل في تاريخه لحظة واحدة مشرّفة ــ يجرؤ على القول: “أتمنى أن يذكرني التاريخ كقائد انتصر على أكبر مؤامرة دولية على السودان”. أي تاريخ هذا الذي سيتكرّم بذكر رجلٍ بدأ مسيرته ببيع النمر العسكرية وهو ملازم صغير، ثم ترقّى ليبيع المواقف والولاءات وهو قائد عام؟ أي تاريخ هذا الذي سيتسامح مع رجل تخلى عن المواقع الاستراتيجية للجيش مقابل رشاوى، بارك الخطة الاستعمارية للجارة الشمالية، وسارع للتطبيع مع العصابة الصهيونية؟

أيُّ تاريخ سيغفر لرجل غدر بشعبه في ميدان الاعتصام، وتآمر على الإرادة الوطنية بانقلاب بائس، ثم أطلق الرصاص على شباب رفضوا خيانته؟ وأي صفحات مجيدة يمكن أن تسع قائدًا جبانًا أعجز من أن يوقف عودة الإسلاميين إلى السلطة، حتى صار شريكًا لهم في حربٍ التي شردت الملايين ودمّرت البلاد؟

إن الحقيقة التي لا يريد البرهان الاعتراف بها أن استمراره في الحرب هو الضمان الوحيد لبقائه على قيد الحياة السياسية. أما السلم، فإنه يتطلب منه ما لا يملك: الشجاعة. الشجاعة في أن يفكك تحالفه مع الإسلاميين، أن يواجه تهديداتهم، أن يضع مصلحة السودان فوق مصلحته، وأن يقول لشعبه الحقيقة كاملة. لكنه لا يملك إلا المراوغة والتسويف، وكأن التاريخ ينتظره حتى يتعلم فنون القيادة.

الإسلاميون أنفسهم يعرفون هشاشته، ولذلك يستعملونه كورقة مؤقتة، وسيتخلصون منه لحظة يشعرون بأنه خرج عن طوعهم. فإما أن تلفظه الإرادة الوطنية لأنه خانها مراراً، أو أن يغتاله الإسلاميون لأنه لم يعد صالحاً للاستعمال، فلا أحد غيرهم يجترئ على المقدس أو يهزأ بحرمة الأرواح. في الحالتين، لن يكون البرهان بطلاً قومياً ولا حتى شهيداً سياسياً، بل مجرد “جندي احتياط” في معركة لم يخضها بضمير.

هكذا إذن، لا يقف البرهان اليوم في مفترق طرق كما يتوهم، بل في نهاية ممر ضيق يفضي إمّا إلى هاوية تُلقيه فيها الإرادة الوطنية التي لم يعد جزءًا منها، أو إلى مقصلة الحركة الإسلامية التي لم يعد صالحًا لخدمتها. إن وهم البطولة الذي يحاول أن يتدثر به لا يخدع إلا نفسه، أما المصير فقد سخر منه قبل أن يكتبه التاريخ: قائدٌ بلا شجاعة، سياسيٌّ بلا رؤية، وجنديٌّ بلا شرف. والتاريخ، الذي ادّعى البرهان أنه سيذكره كمنقذ السودان، لن يفعل أكثر من أن يضعه في الهامش، هامش الخونة والجبناء، حيث تتحول البطولات المزعومة إلى سخرية خالدة.

August 15, 2025

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.