صفاء الزين

في مقاله المنشور في صحيفة وول ستريت جورنال قدّم عبد الفتاح البرهان عرضًا لا يختلف عن خطابه الأخير ضجيجٌ كثير بلا حقيقة واحدة مستقرة محاولة جديدة لإعادة صياغة دوره في المأساة السودانية كأن العالم يجهل من الذي أدخل البلاد في هذا النفق ومن الذي كان يتصرف طوال سنوات كأن السلطة غنيمة ليست مسؤولية.

كتب البرهان حديثًا يتظاهر فيه بالحرص على السودان مع أنّ سجله السياسي والعسكري يروي قصة أخرى فمنذ أن أمسك بخيوط السلطة ظل يقدّم وعودًا تتبدد بمجرد خروج فلاشات الكاميرا يصف نفسه اليوم بصورة الحامي وهو الذي سمح بتآكل الدولة وانهيار مؤسساتها وتمدد دائرة العنف حتى وصلت كل بيت.

يحاول في مقاله تصوير ما يحدث كأنه مؤامرة كبرى تُدار ضده متناسيًا أنّ السودان لم يَنْهَرْ فجأة الانهيار جاء نتيجة قرارات مرتجلة وغياب رؤية وتضارب مصالح داخل مؤسسات السيادة نفسها وكل ذلك كان يجري أمامه وفي أحيان كثيرة بتوقيع منه من الصعب إقناع الرأي العام العالمي بأن من صنع الأزمة يمكنه تقديم علاجٍ لها.

اللافت في مقاله أنه يستخدم لغة تستدرّ التعاطف الدولي من خلال تشويه الوقائع يتحدث عن الدفاع عن الدولة لكنه يغفل أن الدولة نفسها كانت تُدار وفق توازنات شخصية وأن سلوك القيادة خلال الأعوام الماضية هو الذي فتح الباب لتحوّل الصراع من نزاع سياسي إلى حرب شاملة فهو يحاول أن يعيد إنتاج صورة القائد الضرورة الذي يقف وحده في وجه العاصفة مع أنّ العاصفة في أصلها نتيجة خياراته.

أكثر ما يكشف تهافت طرحه أنّ خطابه موجّه للخارج أكثر من الداخل فهو يدرك أنّ السودانيين يعرفون الحقيقة يعرفون كيف ضاعت الفرص وكيف تم تعطيل أي مسار سياسي يضمن انتقالًا هادئًا يعرفون أنّ المؤسسات كانت تُدار بردود الأفعال وأنه كان يعالج كل أزمة بأخرى أكبر منها.

ما كتبه البرهان ليس محاولة لفهم الواقع السوداني وإنما محاولة لتزييفه فهو يريد بناء سردية تُقنع العالم أنه الرجل المناسب لإنقاذ البلاد مع أن التجربة نفسها تقول العكس فالسودان بحاجة إلى قيادة تعيد بناء الثقة ليست قيادة تحاول الهروب من مسؤولية ما جرى والقفز إلى الأمام.

وفي نهاية الأمر سيظل ما يكتبه ويقوله ويفعله البرهان محاولة متأخرة لإعادة صياغة دورٍ يعرفه السودانيون جيدًا فالأزمة أكبر من خطاب وأعمق من مقال يُوجَّه إلى الخارج ما يحتاجه السودان ليس تبريرات جديدة ولكن شجاعة الاعتراف بما حدث وإرادة تُعيد للبلد توازنه بعد سنوات من الضياع وحده الاعتراف بالحقيقة قادر على فتح الطريق أما محاولات الهروب فلن تغيّر شيئًا في واقعٍ يراه الناس كل يوم.

بهذا المعنى يُقرأ مقال البرهان كجزء من استراتيجية أوسع للهروب إلى الأمام استدعاء الخارج والحديث بلغة الديمقراطية والانتقال المدني في منابر دولية بينما الواقع على الأرض يقول إن الرجل ما زال أسيرًا لعقلية الانقلاب ومفهوم السلطة كامتياز شخصي وحلم لأبيه واجب التحقيق كعقد مع الشعب.

فبدل أن يواجه جذور الأزمة عسكرة الدولة تغوّل الأجهزة الأمنية واقتصاد الحرب وغياب العدالة عن كل الجرائم التي ارتُكبت بحق السودانيين يختار الطريق الأسهل صناعة عدو واحد وتبرئة كل ما عداه ثم مطالبة العالم بمنحه تفويضًا جديدًا باسم “حماية السودان”. هذه ليست رؤية لمستقبل ولكنها محاولة لإعادة تدوير نفس المنظومة التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار وكأن المشكلة في الآخرين دائمًا ليست في البنية التي يمثلها البرهان نفسه.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.