زهير عثمان حمد
الحديث عن “الانتقال الديمقراطي” ليس مجرد مصطلح أكاديمي، بل هو في السياق السوداني رحلة محفوفة بالآلام والتضحيات، تتصارع فيها الإرادات، وتتكسر على صخرة الواقع المرير. إنها ليست لحظة انتصار عابرة، بل مسار تاريخي معقد، يضع التجربة السودانية أمام مرآة تعكس تناقضاتها ومآسيها وآمالها المؤجلة. استنادًا إلى رؤى الكاتب عبد الوهاب الأفندي في مراجعته لكتاب الدكتور عزمي بشارة “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته”، ومع تحليل عميق للمفهوم الشائك لـ”التسوية” في ظل الأزمة الراهنة، يمكننا الغوص في هذا الطرح المعقد.
أولًا: الديمقراطية ليست وصفة جاهزة.. السودان وتعثر البدايات
يؤكد بشارة أن الانتقال الديمقراطي لا يسير على سكة محددة، ولا تحكمه وصفات جاهزة مستوردة. كل مجتمع يخوض تجربته بناءً على وعيه السياسي، قدرته على بناء المؤسسات، توافر الإرادة الجماعية، والبيئة الإقليمية المحيطة. في السودان، ربما ظن البعض أن الثورة هي نهاية الطريق، ولم يدركوا أنها مجرد بداية لرحلة طويلة تتطلب وعيًا، صدقًا، ونزاهة، وقدرة على الاستماع المتبادل، قبل إلقاء الخطب باسم الشعب. هذا الفهم المبدئي لتعقيد الديمقراطية غاب عن المشهد، مما أدى إلى تشرذم داخلي وسوء تقدير لطبيعة المرحلة.
ثانيًا: الشعب ليس المشكلة.. نخب الوصاية والوهم
من أخطر المقولات التي يرفضها عزمي بشارة رفضًا قاطعًا، هي تلك التي يروجها بعض من يسمون أنفسهم “نخبًا” بأن الشعب غير جاهز للديمقراطية. “الثقافة السياسية ليست شرطًا للديمقراطية، بل هي نتيجة لها”، هكذا يقول بشارة، مؤكدًا أن الديمقراطية تُربّي شعوبها وتصقلها. في السودان، تحولت بعض النخب إلى أوصياء على الناس، تقرر من هو الثوري ومن هو الرجعي، من يحق له الترشح ومن لا، ومن يُقصى من المشهد. هذا الإقصاء، الذي يضرب في صميم التنوع السوداني، يُجهز على أي أمل في انتقال ديمقراطي حقيقي، ويفتح الباب أمام قوى الاستبداد لإعادة إنتاج نفسها.
ثالثًا: الحقوق المدنية ليست ترفًا.. حصن الديمقراطية المفقود
في كل تجربة انتقالية ناجحة، كانت الحقوق المدنية حرية التعبير، حرية التنظيم، المساواة أمام القانون، واستقلال القضاء هي الحصن الحقيقي ضد الردة والانقلاب. لا يمكن بناء ديمقراطية في السودان ما دامت أجهزة الأمن تحكم، والقضاء خاضع، والإعلام مكبوت، والمواطنة مشروطة بالولاء. المطالبة بحق إصدار جواز سفر أو بحرية كتابة مقال ليست منّة، بل هي استرداد لجزء أصيل من الكرامة الإنسانية. فالديمقراطية لا تعني فقط صناديق اقتراع، بل ضمان كرامة الإنسان في كل لحظة وفي كل تفصيل من تفاصيل حياته. غياب هذه الحقوق هو مؤشر على هشاشة أي عملية انتقال.
رابعًا: الخارج ليس المنقذ.. رهان خاسر على المصالح
الكثيرون في السودان يراهنون على القوى الخارجية، ينتظرون من واشنطن، أديس أبابا، أو الدوحة أن تحسم أمر السودان. لكن الحقيقة المرة التي يؤكدها بشارة هي أن الخارج تحكمه مصالحه، لا أحلام شعوبنا. الغرب، كما يشير بشارة، دعم أنظمة استبدادية كثيرة لأنها تخدم مصالحه في الأمن والهجرة ومحاربة الإرهاب. وفي السودان، لم تهتم الكثير من القوى الدولية سوى بتأمين حدودها ومصالحها، حتى وإن احترق الشعب بالنار. هذا الرهان الخاسر يشتت الجهود الداخلية ويضعف القدرة الوطنية على صياغة الحلول من الداخل.
خامسًا: لا أحد يملك الحقيقة وحده.. التسوية ضرورة وطنية أم خيانة؟
يحذرنا بشارة من فكرة الاستثناء، التي تقول إن الديمقراطية لا تصلح هنا أو هناك، مؤكدًا أن كل حالة انتقال فريدة وتتطلب إرادة ومؤسسات وتعلمًا من الأخطاء. في السودان، نحن بحاجة ماسة إلى تسوية تاريخية لا إلى انتصار طرف على آخر. التسوية، في السياق السوداني، كلمة مثقلة بالدماء، حيث يراها البعض خيانة لتضحيات الثورة، بينما يعتبرها آخرون ضرورة تاريخية لتجنب انهيار الدولة.
ما هي التسوية في السياق السوداني؟
هي آلية سياسية تهدف إلى إنهاء العنف عبر مقايضة بين قوى متصارعة: الجيش، الدعم السريع، القوى المدنية، الحركات المسلحة، والفاعلين الإقليميين. إنها ليست سلامًا دائمًا، بل إدارة مؤقتة لأزمة غير محسومة. في الوعي السوداني، تعني التسوية للثوار التنازل عن القصاص وشرعنة الانقلاب، بينما تراها بعض النخب ضرورة واقعية للخروج من الانهيار، وللضحايا تمثل غياب العدالة إذا لم تقترن بالمحاسبة.
لماذا تفشل التسويات في السودان؟
تتعدد العوائق التي تمنع نجاح التسويات:
صراع الجيش والدعم السريع: معركة وجود لا تقبل القسمة، مع تمسك الطرفين بالعاصمة والثروات. هذا الصراع ليس مجرد نزاع على السلطة، بل هو صراع على هوية الدولة ومستقبلها، ويستمد قوته من مظاهر عسكرة المجتمع وتغلغل القوات غير النظامية.
تعدد الأجندات الخارجية: الإمارات، مصر، قطر، روسيا، فوضى الرؤى في اللجنة السداسية. هذه الأجندات تتقاطع وتتصادم، مما يجعل أي وساطة خارجية أقرب إلى “مائدة تفاوض المصالح” منها إلى “مائدة السلام”.
غياب القطب المدني الموحد: تشرذم قوى الحرية والتغيير، لجان المقاومة، والمهنيين، مما يعجز عن تقديم مشروع بديل. هذا التشرذم يعكس هشاشة البنية التنظيمية وعدم القدرة على تجاوز الخلافات الأيديولوجية والوصول إلى أرضية مشتركة.
اقتصاد الحرب: تهريب الذهب، السيطرة على الموانئ، والجبايات، كلها مصالح تجعل الأطراف ترفض نزع السلاح خوفًا على الريع. هذا الاقتصاد الموازي يغذي الصراع ويمنح الأطراف المتحاربة حوافز للاستمرار في القتال بدلاً من التوصل إلى حل سياسي.
نماذج التسوية المتداولة وما لا يجب التنازل عنه
تتراوح نماذج التسوية بين:
التسوية النخبوية (المحبذة خارجيًا): صفقات سرية بين العسكر ومدنيين موالين، تعيد إنتاج النظام القديم (مثال: اتفاق ديسمبر 2022). هذا النوع من التسويات يفتقر إلى الشرعية الشعبية ويهمش إرادة الجماهير.
التسوية الشعبية (مطلب الثورة): مؤتمر دستوري شامل، محاسبة القتلة، حل الميليشيات، وتمثيل حقيقي للشارع. هذا هو المسار الذي يطالب به جزء كبير من الشعب السوداني، ويرى فيه السبيل الوحيد لبناء دولة مدنية حقيقية.
التسوية الدولية (اللجنة السداسية): خارطة طريق من الخارج (إعلان جدة)، تتجاهل تعقيدات الداخل وتخضع لأجندات متضاربة. على الرغم من حسن النوايا المحتملة، فإن هذه التسويات غالبًا ما تُفرَض من الأعلى إلى الأسفل، دون فهم كافٍ للواقع السوداني المعقد.
لكي تكون أي تسوية مقبولة، يجب ألا تتنازل عن المبادئ الأساسية:
وقف الحرب فورًا بآليات مراقبة دولية قوية وفعالة تضمن التزام جميع الأطراف.
محاسبة الجلادين على الجرائم منذ 2019، بدءًا بـفض اعتصام القيادة العامة ومرورًا بجرائم الحرب الحالية.
تفكيك اقتصاد العنف واستعادة المال المنهوب، بما في ذلك إصلاح القطاع الأمني والاقتصادي وإخضاع جميع المؤسسات للمساءلة المدنية.
إعادة السلطة للشعب عبر حكومة كفاءات مستقلة، وإشراف مدني كامل على المؤسسة العسكرية، بما يضمن فصل السلطة العسكرية عن السياسية.
إن “التسوية التي لا تنهي عسكرة الدولة، هي إجازة للقتلة لإعادة التموضع”.
اللجنة السداسية: فرصة تاريخية أم فخ ناعم؟
اللجنة السداسية، بتشكيلتها من قطر، بريطانيا، الإمارات/السعودية، وأمريكا، تحمل هواجس عديدة. قطر كـ”وسيط لحوار الإسلاميين” تثير مخاوف تدويرهم دون محاسبة. بريطانيا بـ”أدوات القانون الدولي” قد تستخدم العدالة كورقة ضغط سياسي. الإمارات والسعودية بـ”التمويل والدعم اللوجستي” قد تربطان الاتفاق بمصالح اقتصادية. وأمريكا بـ”الراعي السياسي” قد تغلب الاستقرار على الديمقراطية. السؤال الأبرز هنا: هل يمكن للجنة تجاوز تضارب أجنداتها لخدمة المصلحة السودانية؟ إن عدم وجود ممثلين سودانيين فاعلين وموحدين في هذه اللجان يزيد من احتمالية فرض حلول لا تتماشى مع تطلعات الشعب.
السيناريوهات المحتملة: مفترق طرق حاسم
الخلاص المدني (5%): انتفاضة جديدة تفرض تسوية عادلة، وقيادة مدنية موحدة تنتصر لقيم الثورة. هذا السيناريو، وإن كان الأقل احتمالية في الظرف الراهن، يمثل الأمل الأخير لبناء سودان ديمقراطي ومستقر.
لا طريق ثالث.. دماء لا تسمح بأنصاف الحلول
التسوية ليست نهاية التاريخ، بل مفترق طرق حاسم في السودان. إما أن تكون اتفاقًا يؤسس لمدنية الدولة والعدالة، أو أن تكون رصيفًا تمهيديًا لحروب جديدة أكثر دموية. “الدماء التي سالت منذ ديسمبر 2018، لا تسمح بنصف الحلول. إما تسوية تقطع جذور النظام القديم، أو دوامة بلا نهاية.” إن السودان الذي نحلم به لن تصنعه بيانات الخارج، ولا اتفاقيات في الفنادق، ولا تسويات فوقية. إنه وطنٌ يولد من دموع الأمهات، وعرق الفلاحين، وأحلام التلاميذ، وصبر الناجين من المعتقلات والمذابح. إذا أردنا انتقالًا ديمقراطيًا حقيقيًا، فلنبدأ بأن نحترم أصوات بعضنا، وأن نؤمن بأن الكرامة تسبق الانتخابات، وأن الدولة هي خادمة الناس، لا سيدتهم.
لا يمكن لأي انتقال ديمقراطي حقيقي أن يرسخ جذوره في السودان دون إصلاح جذري وشامل لقطاعه الأمني. فالمؤسسات الأمنية والعسكرية، التي هيمنت على المشهد السياسي لعقود، وتحولت من حامية للدولة إلى لاعب أساسي في صراعاتها الداخلية، تحتاج إلى تحول عميق في بنيتها، عقيدتها، ومساءلتها. يمثل هذا الإصلاح حجر الزاوية لبناء دولة مدنية حديثة، ولكنه في الوقت ذاته التحدي الأكبر الذي يواجه عملية السلام والاستقرار في البلاد.
السياق الراهن: قطاع أمني متشظٍ ومُسيّس
الوضع الراهن للقطاع الأمني في السودان يتسم بالتشتت، تعدد الولاءات، والتشابك العميق مع المصالح الاقتصادية والسياسية. لا يتعلق الأمر بالجيش السوداني وحده، بل يشمل قوات الدعم السريع، والحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات سلام، والمخابرات، والشرطة، وغيرها من الأجهزة. كل منها يعمل وفق منطق خاص به، وغالبًا ما يتنافس أو يتصارع مع الأجهزة الأخرى. هذا التعدد والغياب الواضح للقيادة الموحدة والمدنية يجعل أي محاولة للانتقال الديمقراطي مهددة بالانهيار في أي لحظة. إن هذا التشظي ليس مجرد خلل وظيفي، بل هو نتاج عقود من السياسات التي سعت إلى إضعاف المؤسسات الرسمية وتقوية الكيانات الموازية لضمان ولاءات شخصية أو حزبية، مما أفرغ الدولة من محتواها وقوّض احتكارها المشروع للعنف.
الأهداف المحورية للإصلاح الأمني
يكمن الهدف الأساسي للإصلاح الأمني في بناء قطاع أمني محترف، كفؤ، ومسؤول، يخدم الشعب والدولة، ويخضع بالكامل للسلطة المدنية المنتخبة. يشمل هذا التحول عدة أبعاد أساسية. أولًا، توحيد القوات المسلحة ضرورة قصوى لإنهاء تعدد الجيوش والمليشيات، ودمج جميع القوات في جيش وطني واحد، تحت قيادة مركزية موحدة. هذا يشمل دمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة وفق جداول زمنية واضحة ومعايير مهنية، مع برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR) للمقاتلين. هذا الدمج ليس مجرد عملية فنية، بل هو مشروع سياسي واجتماعي يتطلب معالجة ملفات الولاءات المتعددة والمصالح الاقتصادية المتشابكة.
ثانيًا، يجب إخضاع الجيش للمساءلة المدنية، بنقل السلطة النهائية على الجيش من القادة العسكريين إلى السلطة المدنية المنتخبة، سواء كانت رئاسية أو برلمانية، وإسناد وزارة الدفاع لمدنيين متخصصين. هذا يعني وضع آليات رقابية فعالة من قبل البرلمان على ميزانية الدفاع، وعمليات التجنيد، والتعيينات في المناصب القيادية، وضمان خضوع أفراد القوات المسلحة للقانون المدني في الجرائم غير العسكرية، وتعزيز استقلال القضاء العسكري. الهدف الأسمى هو أن يكون الجيش خادمًا للدولة المدنية لا سيدًا عليها.
ثالثًا، لابد من تجريد الجيش من المصالح الاقتصادية وفصل المؤسسة العسكرية عن الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي تدر عليها إيرادات خارج ميزانية الدولة. يجب تحويل هذه الشركات إلى ملكية عامة أو خصخصتها بشفافية ومساءلة. هذا الإجراء ضروري لمنع الجيش من استخدام موارده لتعزيز نفوذه السياسي والاستغناء عن الرقابة المدنية، ويضمن تكريس موارد الدولة لمشاريع التنمية والخدمات العامة.
رابعًا، يجب العمل على تطوير عقيدة أمنية جديدة تركز على حماية الدستور والدولة المدنية، والتزام الجيش والمؤسسات الأمنية بالولاء للدستور وليس لشخص أو حزب، وحماية النظام الديمقراطي. تتضمن هذه العقيدة كذلك الحياد السياسي الصارم، وحظر الانتماءات الحزبية والسياسية داخل القوات المسلحة، مع تدريب أفراد الأمن على احترام حقوق الإنسان والمواطنين، والالتزام بالقوانين الدولية، ومحاسبة منتهكي هذه الحقوق. يعود الدور الأساسي للجيش في هذه العقيدة إلى الدفاع عن الحدود وحماية سيادة البلاد ووحدة أراضيها.
أخيرًا، يشمل الإصلاح إصلاح أجهزة المخابرات والشرطة. يجب تحويل جهاز المخابرات من أداة للقمع السياسي إلى جهاز جمع معلومات وتحليلها لخدمة الأمن القومي، مع وضع آليات رقابة مدنية وبرلمانية صارمة لمنع انتهاك الحريات. أما الشرطة، فيجب تعزيز دورها كجهة إنفاذ قانون مدني، بعيدًا عن التدخلات السياسية، مع تدريبها على حفظ الأمن والنظام العام وحماية المدنيين، لا سيما في مناطق النزاع، وتطبيق مبادئ الشرطة المجتمعية.
التحديات الكبرى أمام الإصلاح الأمني
إن مسار الإصلاح الأمني في السودان يواجه تحديات هائلة، تتجاوز الجوانب الفنية لتلامس صميم القوى السياسية والاقتصادية المتحكمة بالبلاد. تبرز في المقدمة مقاومة الأطراف المستفيدة؛ فالقادة العسكريون والفصائل المسلحة التي بنت نفوذها ومكاسبها الاقتصادية على الوضع الراهن ستقاوم بشدة أي تغيير يهدد امتيازاتهم. هذه المقاومة تتخذ أشكالًا متعددة، من الرفض العلني إلى عرقلة الإجراءات من الداخل.
كما أن غياب الثقة يشكل عائقًا كبيرًا. فعقود من التدخل العسكري والقمع خلقت فجوة هائلة من عدم الثقة بين الشعب والمؤسسات الأمنية، وبين المكونات العسكرية والمدنية. استعادة هذه الثقة تتطلب وقتًا طويلاً وجهدًا كبيرًا، ومبادرات ملموسة تُظهر التزام المؤسسة الأمنية بالتحول الديمقراطي والمساءلة.
تزداد التعقيدات بفعل التدخلات الإقليمية والدولية، حيث قد تكون لبعض القوى الخارجية مصالح في الإبقاء على الوضع القائم أو دعم فصائل معينة، مما يعقد عملية الإصلاح ويجعلها رهينة لأجندات لا تخدم المصلحة الوطنية السودانية. هذه التدخلات يمكن أن تزيد من الانقسامات وتغذي الصراع.
علاوة على ذلك، تُشكل الأزمة الاقتصادية عائقًا ماديًا هائلاً. فضعف الموارد المالية للدولة يجعل من الصعب تمويل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR) للمقاتلين، وإعادة تأهيل المؤسسات الأمنية بما يتناسب مع المعايير الحديثة، وتوفير البدائل الاقتصادية للمسرحين.
وأخيرًا، تُعد العدالة الانتقالية ملفًا حساسًا ومعقدًا. فمعالجة قضايا الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان السابقة، ومحاسبة المتورطين، هي قضية حاسمة لبناء السلام المستدام. تجاهل هذه الملفات يقوض الثقة ويخلق شعورًا بالإفلات من العقاب، بينما التعامل معها يتطلب توازنًا دقيقًا لتجنب المزيد من الانقسامات أو تصعيد الصراعات.
السبيل إلى الأمام: مقاربة شاملة ومتدرجة
إن الإصلاح الأمني في السودان ليس خيارًا، بل ضرورة حتمية. إنه الجسر الذي لا بد من عبوره نحو دولة مستقرة، ديمقراطية، يحكمها القانون، وتخدم شعبها. غياب هذا الإصلاح يعني استمرار دوامة العنف والانقلابات، وتأبيد الفوضى التي دفعت السودان ثمنها غاليًا. يتطلب هذا المسار مقاربة شاملة ومتدرجة، لا يمكن أن تتم بمعزل عن العملية السياسية، بل يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ منها.
أولًا، يجب أن يكون هناك توافق وطني واسع، يتمثل في اتفاق سياسي شامل بين جميع الفاعلين المدنيين والعسكريين على رؤية موحدة لمستقبل القطاع الأمني ودوره في الدولة المدنية. هذا التوافق يجب أن ينبع من حوار سودانيسوداني غير إقصائي، يضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات أخرى.
ثانيًا، يُعد الدعم الدولي المنسق عاملًا محوريًا. لا يقتصر هذا الدعم على المساعدات المالية، بل يشمل الدعم الفني والخبرة في بناء القدرات الأمنية، مع الالتزام بمبادئ المساءلة والشفافية. يجب أن يتجنب المجتمع الدولي التدخلات التي تزيد من الانقسام، ويركز على دعم المؤسسات المدنية وتقوية دورها الرقابي.
ثالثًا، لابد من وجود إرادة سياسية حقيقية لدى القيادات السودانية، مدنية وعسكرية، للالتزام بعملية الإصلاح بصدق، حتى لو تطلب ذلك التنازل عن بعض النفوذ أو المصالح. هذه الإرادة يجب أن تكون مدفوعة بقناعة بأن مستقبل السودان مرهون بمدنية الدولة واستقرارها.
أخيرًا، إن بناء الثقة الشعبية في المؤسسات الأمنية أمر بالغ الأهمية. يمكن تحقيق ذلك من خلال الشفافية في عمل هذه المؤسسات، والمساءلة الفعالة لمن يرتكبون الانتهاكات، وتوفير الأمن للمواطنين وحماية حقوقهم الأساسية. عندها فقط، يمكن للمؤسسات الأمنية أن تستعيد مكانتها كحامية للشعب والدولة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة