عبد العظيم ميرغني
• الإعلام، إن لم تصادقه، خاصمك؛ وإن لم تحاوره، صوّرك على هواه.
• بهذه العبارة أستهل شهادتي عن الإعلام، لا بصفته مجرد ناقل للأخبار، بل باعتباره شريكًا أصيلاً في القضايا الكبرى التي تتطلب وعياً مجتمعيًا وتواصلاً نزيهًا ومسؤولاً.
• والغابات واحدة من هذه القضايا، التي بقيت طويلًا على هامش الاهتمام رغم عمق صلتها بحياة الناس وأرزاقهم.
• وقد علمتني التجربة أن الإعلام هو الأداة الأقدر على إبراز صوت الغابات، ووضعها تحت دائرة الضوء، وتحفيز الحوار حول قضاياها.
• ولهذا لم أتعامل معه كوسيلة طارئة أو نشاط هامشي، بل كذراع استراتيجي، ورفيق مسيرة في بناء الصورة العامة للهيئة القومية للغابات، وفي تعزيز دورها ضمن السياسات العامة.
• هذا الاهتمام لم يكن وليد اجتهاد فردي، بل امتداد لنهج راسخ اتبعته إدارات الغابات منذ أن كانت مصلحة ثم هيئة، بتوثيق صلاتها بوسائل الإعلام عبر برامج إذاعية وتلفزيونية منتظمة، مثل “الحقل والعلم” و “دعوا الأشجار تنمو”، وتغطيات صحفية مستمرة في الوسائط الولائية والمركزية.
• أما على المستوى الشخصي، فقد ازداد يقيني بأهمية الإعلام من خلال حقيقتين: أولاهما أن عمل الغابات لا يقوم إلا على التعاون الجماهيري والمشاركة الشعبية. وثانيتهما أن جزءاً كبيراً من فعالية أي مؤسسة عامة مرهون بحضورها الإعلامي ووضوح صورتها في أذهان المواطنين وصنّاع القرار.
• بناءً على ذلك، سعيت لتعزيز علاقة الهيئة بالإعلام، وحرصت على توسيع دوائر التواصل والانفتاح، وتوفير المعلومة الصحيحة للجميع، باستثناء ما تقتضيه ضرورات العمل من تحفظ.
• أتحت للإعلاميين ما أرادوا من معلومات، حتى تلك التي استغلتها بعض الصحف ضدي شخصياً أو ضد الهيئة، كما في بعض القضايا التي أفردت لها الصحف حيزاً واسعاً، وصارت قضايا رأي عام.
• وقد علمني أمير الشعراء أحمد شوقي درسًا بليغًا حين قال: لكل زمان مضى آية … وآية هذا الزمان الصحف.
• كنت أعي أن الصحف، آنذاك، تسبق غيرها في تشكيل الانطباع العام، بل ويبدأ بها كثير من المسؤولين يومهم، قبل أن تتراجع أمام زحف وسائل التواصل الاجتماعي.
• كنت أتعامل مع الإعلاميين بصدر رحب، حتى في القضايا التي كانت تُثار أحيانًا وتُصبح مثار جدل، وكنت أؤمن دائمًا أن النقد، حتى وإن تجاوز حدوده أحيانًا، يمكن أن يُبنى عليه ما هو إيجابي.
• خدمتني وسائل الإعلام على الصعيدين المهني والشخصي، إذ أتاحت لي الظهور المنتظم، ومكّنتني من بناء علاقة ممتدة مع عدد كبير من الصحفيين، الذين باتوا يرون فيّ زميلاً في المهنة، لا مجرد مسؤول حكومي.
• علاقتي المباشرة بالصحافة بدأت عام 2001م، بمقالة نشرتها في صحيفة “الأيام”، ثم تواصلت بمقالات أسبوعية في “الأيام” و”السوداني”، وصحف أخرى أدين لها بالوفاء.
• وقد أسعدني أن تلك المقالات لاقت اهتماماً من شخصيات علمية وإعلامية رفيعة، تكرّمت لاحقاً بتقديمها في كتيبات، من بينهم البروفيسور علي شمو، والأستاذ محجوب محمد صالح، وعلماء مرموقون مثل البروفيسور يوسف فضل، والبروفيسور جعفر ميرغني، والدكتور بركات موسى الحواتي، والبروفيسور حسن عثمان عبد النور، وبالطبع أبو الغابات الدكتور كامل شوقي.
• على امتداد تلك المسيرة، لم تخلُ العلاقة مع الصحافة من منعطفات صعبة، كما حدث مثلاً عندما نشرت إحدى الصحف خبراً غير دقيق بشأن لجنة تحقيق مزعومة.
• وقد واجهنا هذا النوع من الأخبار بروح المسؤولية، بالتحقق والتوضيح، وفي بعض الحالات عبر المسارات القانونية التي تتيحها لوائح الصحافة.
• ففي الصحافة السودانية، كما في صحافة العالم، تجد أحياناً من تنطبق عليه مقولة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون: من المؤلم أن يُحاكم من أفنى عمره في خدمة الناس عبر صحيفة، والأشد إيلاماً أن يُنكر عليه إعلان براءته بعد معاناة طويلة لإثباتها، بل ويظل ملاحقاً باتهامٍ قضى القضاء ببطلانه.
• من الإنصاف الإشارة إلى أن بعض الصحف، حين تبيّنت لها الحقائق، بادرت بتقديم اعتذارات طوعية، وقد قدرتُ ذلك كثيراً، إذ إن الاعتذار في العمل الصحفي يُعد علامة قوةٍ ونزاهة، لا ضعف.
• وفي جميع تلك المواقف، ظل هدفي هو احترام الحقيقة، وتفادي التصعيد، والحفاظ على جسور الثقة مع الإعلام باعتباره فضاءً عاماً يعكس تنوّع الآراء، ويخضع بدوره لمساءلة الرأي العام.
• لم أتعامل مع الإعلام كوسيلة للترويج أو وسيط ناقل فحسب، بل رأيت فيه شريكاً فاعلاً وقوة دافعة في قضايا استراتيجية، كما في ملف الصمغ العربي، حيث أسهم بدور محوري في إيصال صوت صغار المنتجين إلى دوائر صنع القرار.
• وقد تجلّى هذا الدور بوضوح خلال فترة وجيزة لم تتجاوز 16 شهراً (من 22 ديسمبر 2003م إلى 22 أبريل 2005م)، حين تمكنت الهيئة من نشر 328 مادة صحفيةبين مقالات وتحقيقات وأخبارفي أبرز الصحف، تناولت قضايا الصمغ العربي، وسلطت الضوء على جهود تمكين جمعيات صغار المنتجين.
• لقد كان الإعلام، بكل ما فيه من حيوية وتنوع، جزءاً لا يتجزأ من تجربتي العملية في الهيئة. ومن خلاله، لم أكتفِ بتعزيز حضور الغابات في النقاش العام باعتبارها مكوناً أصيلاً من بيئتنا وثرواتنا وهويتنا، بل تعلمت الكثير، ووطدت صلتي بالمجتمع، في رحلة امتزج فيها العمل المؤسسي بالإيمان العميق بقوة الكلمة.
• وفي تجسيد عملي لهذا التوجه، أنشأت الهيئة القومية للغابات عام 2009 جائزة خاصة باسم “الصحفي الأخضر”، نالها آنذاك الصحفي صاحب القلم الأخضر حيدر المكاشفي، الذي لم يتوان عن الدفاع عن قضايا الغابات، حتى إن واجه بذلك أقريبين منه.
• كما كرّمت الهيئة الصحفي الراحل الفاتح النور بمنحه وسام النيلين، في احتفال تاريخي هو الأكبر من نوعه في سجل الغابات، بمناسبة اليوبيل الماسي للإدارة العامة للغابات.
• لقد كانت الرحلة مليئة بالدروس، وبعض التحديات، لكنها في مجملها كانت تجربة ثرية.
• وما أتمناه الآن، هو أن تبقى علاقة المؤسسات بالإعلام قائمة على الصدق والاحترام والتكامل، لأن الرسالة الأهم لا تكتمل إلا بهذا التعاون. آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة