العقد الاجتماعي في زمن الحرب: الإعلام، الكراهية، ومسؤولية الكلمة في السودان

عبد الماجد سعيد عرمان

منذ أن كتب جان جاك روسو عبارته الشهيرة: “الإنسان وُلد حرًا، لكنه في كل مكان مكبَّلٌ بالأغلال”، والإنسانية لم تتوقف عن إنتاج أغلال جديدة: أغلال السلطة، وأغلال السوق، وأغلال الصورة، وأخيرًا أغلال الكلمة.

في السودان زمن الحرب، لم تعد الأغلال سلاسل من حديد، بل صارت خوارزميات تتحكم في تدفق الأخبار، ومنصاتٍ تُعيد تشكيل الوعي الجماعي، وأصواتًا تصنع من الكراهية خطابًا يوميًا، يُدار كأنه جزء من معركة موازية على أرواح الناس.

العقد الاجتماعي، كما تخيله روسو، ليس ورقة مكتوبة بل اتفاق أخلاقي بين البشر: أن يتنازل الفرد عن جزء من حريته المطلقة ليحيا داخل نظام يضمن العدالة والكرامة للجميع.

لكن حين تضعف الثقة، ينهار العقد بصمت. في السوق حين يعلو الغش على الصدق، في الشارع حين يصبح العنف هو اللغة السائدة، وفي وسائل الإعلام حين تتحول الحرية إلى فوضى تُبث عبر المنصات بلا ضابط ولا بوصلة.

هنا يصبح السؤال فلسفيًا واجتماعيًا في آن: هل العقد الاجتماعي هو نصٌّ في الدستور، أم هو شعور داخلي بالانتماء والمسؤولية؟

الإعلام لم يعد عبارة عن ناقل للخبر، بل صار المسرح المركزي للعقد الاجتماعي.

في المنصات تُوزَّع صور الضحايا.

في الشاشات تُصاغ خطابات التحريض أو رسائل الأمل.

وفي الفضاء الرقمي تُختبر إنسانيتنا كل يوم: هل نشارك الكراهية، أم نقاومها بكلمة عادلة؟

حين تتحول المنصات إلى ساحات فوضى، يصبح النقاش أكبر من حرية التعبير. فالكلمة لم تعد بريئة: إنها قد تُنقذ حياةً أو تُشعل حربًا. الحرية التي لا تُقاس بميزان المسؤولية لا تعني شيئًا سوى الانزلاق نحو هاوية الفوضى.

في الأزمنة العادية، يُختبر العقد الاجتماعي في تفاصيل بسيطة: انتظارك في طابور الخبز، احترامك إشارة المرور، أو التزامك بالصدق في معاملة.

أما في زمن الحرب، فإن الاختبار أكثر قسوة:

هل نصون الحياة وسط ثقافة الموت؟

هل نحفظ كرامة المختلف وسط صخب الكراهية؟

هل تبقى للكلمة قيمة إذا صارت رصاصة افتراضية تسبق الرصاصة الحقيقية؟

السودان اليوم يعيش هذا الامتحان المضاعف: انقسام سياسي، انقسام إعلامي، وتمزق مجتمعي، يجعل العقد الاجتماعي هشًا، وكأن كل طرف يكتب عقده الخاص داخل فقاعة رقمية معزولة.

العقد الاجتماعي ليس نصًا يُكتب مرة واحدة، بل ممارسة يومية.

نحن نعيد كتابته كل صباح:

حين نكبح غضبنا في الشارع.

حين نرفض الكذب في منشور عابر.

حين نواجه خطاب الكراهية بكلمة عادلة.

حين ندرك أن الحرية لا تكتمل إلا داخل حدود العدالة.

في السودان، حيث الحرب تمزق الأجساد والمعاني معًا، تصبح مسؤولية الكلمة أقدس من أي وقت مضى. فهي لم تعد أداة للتواصل، بل صارت شرطًا من شروط البقاء الإنساني.

ربما لم يكن روسو يتخيّل أن العقد الاجتماعي سيُختبر يومًا عبر شاشات مضاءة بخوارزميات، أو أن الحروب ستدار بالكلمة بقدر ما تُدار بالسلاح. لكن الفكرة الجوهرية تبقى واحدة: لا وجود لإنسان بلا مجتمع، ولا لمجتمع بلا اتفاق، معلنًا كان أم صامتًا.

والسودان اليوم، في زمن الحرب والشتات، يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عقد اجتماعي جديد، تُكتب بنوده لا في قاعات السياسة وحدها، بل في وعي الناس وكلماتهم، في الأسواق والحواشات، وعلى المنصات التي تُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية كل يوم.

الإعلام في زمن الحرب ليس شاشة فقط، بل مرآة. إما أن تعكس وجوهنا بكرامة، أو تُشوهها بخطاب الكراهية. في كل مرة نشارك خبرًا أو نعلّق بجملة، نوقّع على عقدٍ صامت: هل نريد حياةً مشتركة رغم كل هذا الخراب، أم نختار أن نغرق أكثر في فوضى الدم والكلمات؟

السودان اليوم يشبه بيتًا قديمًا تصدّعت جدرانه، لكن فيه غرفة ما زال ضوء المصباح فيها ضعيفًا، يقاوم الانطفاء. ذلك الضوء هو الأمل في عقدٍ جديد، عقد لا يُكتب في مكاتب السياسيين فقط، بل في ضمائر الناس: في كلمة عادلة، في صدقٍ لا يُساوم، وفي حلمٍ أن الحرية ليست أن تصرخ وحدك، بل أن تستمع أيضًا لصوت الآخرين.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.