الإسلاميون بين تناقض الخطاب وتحالفات المصالح قراءة في موقفهم من وفد قوى “تقدم” ومظاهرات لندن
زهير عثمان حمد
الهجوم على وفد قوى “تقدم” بقيادة حمدوك في لندن ، يعكس حالة الاستقطاب الحاد والمتصاعد داخل الأوساط السياسية السودانية التي انقسمت بشكل شبه تام حول الحرب الجارية. إن هذا الهجوم ، الذي وصل إلى محاولات إيذاء جسدي لأعضاء الوفد ، يشير إلى طبيعة الصراع المعقد الذي لا يقتصر على ساحة المعركة بل يمتد إلى الخطاب السياسي ووسائل الإعلام وحتى المهجر. فبينما تسعى “تقدم” بقيادة حمدوك نحو إيقاف الحرب من خلال العمل المدني والاتصالات الدولية ، تبذل القوى الإسلامية ، التي تواصل دعمها للحرب ، جهوداً لوقف تمدد نفوذ المدنيين في المجال السياسي ، خاصةً من خلال التصدي للحراك المدني المناهض للحرب.
يشكل ظهور عبد الله حمدوك ، كسياسي متزن وناشط في وقف الحرب ، إضافة قيمة للمشهد السياسي السوداني ، خاصة عند مقارنته بمواقف الدعم السريع والشخصيات المرتبطة به. فالدعم السريع ، ورغم تورطه في أعمال عنف ، يحاول الآن التسويق لنفسه كطرف يسعى للعب دور سياسي بينما يستغل الإسلاميون قنواتهم الإعلامية للدفاع عن ذلك التوجه. لكن هجمات الإسلاميين على “تقدم” تكشف عن أزمة الثقة بينهم وبين أي جهد مدني بديل يسعى لاستعادة دور قوى الثورة عبر طرق سلمية.
تاريخياً ، عرف السودان تحديات الانتقال الديمقراطي منذ ثورة أكتوبر ، حين قوضت الطموحات الحزبية أهداف الديمقراطية ، وأدى ذلك إلى الانقلابات المتكررة. ثم جاء التجمع الوطني الديمقراطي بعد الانتفاضة ، والذي فشل في تحقيق أهدافه الجوهرية. وفي أعقاب ثورة ديسمبر ، استمرت نفس المشاكل ، حيث قوضت المحاصصة كفاءة حكومة حمدوك وأتاحت فرصاً للأحزاب الحاكمة للابتزاز ، ما أضعف مسار التحول الديمقراطي وأدى لتزايد تدخلات المكون العسكري في الشأن المدني.
اليوم، تأتي “تقدم” كبديل تسعى من خلاله مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير وبعض منظمات المجتمع المدني للانفصال عن تحالفاتها القديمة ومحاولة ملء الفراغ المدني. لكن مساعيها تواجه عقبات عديدة أبرزها عدم التوافق مع قوى مدنية أخرى حول الاتفاق الإطاري السابق للحرب ، ما يصعّب بناء جبهة قوية وموحدة تقف في وجه الحرب.
تجدر الإشارة إلى أن زيارة وفد التنسيقية بقيادة حمدوك للندن تُعد أبرز تحرك دولي لقيادة “تقدم” بعد جهود إقليمية ، مثل زيارة مصر. يأتي هذا في وقت حساس ، إذ تتعمق الحرب السودانية حتى تكاد تصل إلى حرب أهلية شاملة ، حيث ازداد عدد القتلى المدنيين وتفاقمت المعاناة الإنسانية. يتزامن ذلك مع غياب خطاب سياسي مؤثر قادر على جذب الرأي العام لوقف النزاع ، إذ أن الأطراف المتصارعة على الأرض لم تستطع تحقيق انتصار حاسم ، مما يعزز أهمية التحركات السلمية.
إعلامياً ، تفتقر “تقدم” للإمكانيات الضخمة التي يتمتع بها الجيش والحركة الإسلامية والدعم السريع ، إذ ينقصها التمويل الكافي لقنوات فضائية أو غرف إعلامية متقدمة. لكن يمكن لتقدم أن تستغل منصات الإعلام الاجتماعي بصورة أكبر لجذب التأييد الشعبي وتكثيف حضورها بشكل يومي. كذلك ، غياب حمدوك عن المشهد الإعلامي وتقليل ظهوره لا يساعد في تحفيز الشعب السوداني المنكوب لتبني موقفه ، خاصة عند مقارنته بتواجد مستمر لقيادات عسكرية بارزة.
إن هذا الصراع الإعلامي الذي تشهده البلاد يشكل جزءاً من الحرب ؛ إذ تستغل الأطراف المتقاتلة وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام ، سواء لكسبه أو تضليله. لذا ، من الضروري لـ”تقدم” أن تكثف جهودها لتقديم خطاب إعلامي رصين ومؤثر ، سواء من خلال تطوير منصاتها الإعلامية الحالية أو تعزيز شراكاتها مع منظمات دولية للحصول على دعم إعلامي أفضل. يمكن استغلال علاقات حمدوك القوية دولياً لجذب الدعم الذي يمكّن من تأسيس قناة إعلامية أو راديو أو حتى منصات إلكترونية لتمرير الرسائل المناهضة للحرب بفاعلية.
إن التحرك الأخير لوفد “تقدم” بقيادة حمدوك ، رغم تعرضه للهجوم من قبل الإسلاميين ، يعد دليلاً على أن هذا التنظيم يسير في الاتجاه الصحيح ، حيث يواجه معارضة شديدة من الداعمين لاستمرار الحرب. ومن المهم أن يواصل هذا التنظيم سعيه لإيقاف النزاع عبر الحوار السلمي ، فوجوده كذراع مدني قوي يمثل شريحة واسعة من قوى الثورة يمكن أن يشكل عاملاً حاسماً في نهاية الحرب.
إن الأحداث الأخيرة في لندن ، من تظاهرات قادها مناصرو الدعم السريع دون مواجهة من الإسلاميين ، تسلط الضوء على أولويات واضحة تكشف تحولات في التوجهات السياسية والعداء العلني ضد القوى المدنية وشباب الثورة. رغم أن الإسلاميين في خطابهم يظهرون معارضة علنية لقوات الدعم السريع ، إلا أنهم في الواقع لم يحركوا ساكنًا أمام مظاهرة مناصريها ، بينما لم يترددوا في مهاجمة وفد التنسيقية المدنية الذي قاده حمدوك إلى لندن. هذا الاختلاف في رد الفعل يؤكد أن هدفهم الأساس هو قمع القوى المدنية وشباب الثورة ، أكثر من عداوتهم الفعلية لأحد طرفي الصراع المسلح.
ما شهدناه من أعمال عنف وتصفية استهدفت العديد من شباب لجان المقاومة ، الذين وقفوا إلى جانب الشعب وقدّموا يد العون للمدنيين وسط لهيب الحرب ، يكشف عن تناقض صارخ في سلوك الإسلاميين. لقد كان الأولى بهم أن يناصروا هؤلاء الشباب، ولكنهم اختاروا التحالفات التي تخدم أجنداتهم السياسية على حساب مدنية الثورة ومبادئها الإنسانية. هذه التصرفات تؤكد على توجههم لإضعاف الحركة الثورية المدنية ، والتشكيك في مسارها عبر حملات التشويه وشراء الذمم ، في وقت يحتاج فيه الشعب السوداني إلى وحدة صفّ في مواجهة آلة الحرب التي أنهكت الجميع.
وعلى الرغم من تصاعد هذا السلوك العدائي، فإن المجتمع المدني السوداني لا يزال متماسكًا في رفضه للحكم العسكري وكل أشكال الاستبداد. إن غياب الإسلاميين عن مواجهة دعم أنصار الدعم السريع ، وموقفهم العدائي تجاه القوى المدنية ، يعكس تناقضًا واضحًا ويظهر عدم اهتمامهم الفعلي بمبادئ السلام والعدالة بقدر اهتمامهم بإسكات أصوات الثورة.
وفي ظل هذه الظروف المعقدة ، تؤكد القوى الثورية وقوى المجتمع المدني التزامها الكامل بالتحول الديمقراطي. نحن نؤمن بأن انتصار الثورة سيتحقق بفضل إرادة الشعب السوداني ، وأن مسار الانتقال الديمقراطي هو الأمل الأكبر لكل السودانيين لتحقيق العدالة والحرية ، بعيدًا عن أي وصاية عسكرية أو عقائدية .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة