منذ أن نجح ذلك الانقلاب المشؤوم في 30 يونيو 1989، فإن الإسلامويين قد سرقوا الدولة، وأحالوها إلى ملك شخصي يتحكمون فيه على طريقتهم الفاجرة، فلم تعد السلطة تعني خدمة الناس أو حفظ كرامتهم، بل تحولت إلى منظومة عذاب تتقن التخويف، وتُحسن التجويع، وتتفنن في تحويل أبسط الحقوق إلى مطالب مستحيلة، ولم يعد المواطن يشتكي من فساد عابر أو نقص مؤقت، بل يعيش داخل شبكة مصممة بعناية لتُحكم عليه الحصار، وتسلب منه ما تبقى من صبر، وتنفي عنه الشعور بأنه جزء من وطنٍ له معالم، الكهرباء والماء لم تعد خدمات تُقطع لأسباب فنية، بل صارتا أدوات قهر يومي يُسلَّط على الأحياء الهامشية والأسر البسيطة، بينما تُخصّص الشبكات لأهل النفوذ، وتُوجَّه الفوائض نحو نُزل السياسيين والمستفيدين. حين يحلّ الليل لا تنيره الدولة، وحين يشتد الحرّ لا يُبرده الماء، وحين يُطلب العلاج لا يُوجد إلا في السوق السوداء.
في مملكة البحرين، يعيش العديد من السودانيين واقعًا معلقًا، إذ تعرقل مشكلة تجديد الجوازات المنتهية صلاحيتها قدرتهم على تجديد الإقامات، مما يؤثر مباشرة على سير حياتهم الطبيعية، السفارة السودانية في المنامة كانت فيما مضى تلجأ إلى إجراءات يدوية لحل هذه الأزمة، خصوصًا حين تتأخر فرق إدارة الجوازات عن الحضور من السودان. لكن الآن، وبحسب تأكيد القائم بالأعمال في السفارة، صدر قرار من رئاسة السلطة في بورتسودان يمنع استخدام الأختام اليدوية، ما جعل السفارة عاجزة عن تقديم أي حل مؤقت.
النتيجة هي أن العائلات السودانية تُترك لمصيرها، مع وعود متكررة منذ أكثر من عام بوصول الفريق المختص دون أن يتحقق ذلك، رغم أن الظروف اللوجستية تسمح بالوصول بسهولة، ويبدو أن السلطات في بورتسودان تفضل إبقاء هذه الأزمة قائمة، متغافلة عن تبعاتها العميقة: تعطيل مستقبل دراسي، تأجيل سفر إنساني، وحرمان أفراد من حقوقهم الأساسية في التنقل والعيش الكريم. وكأن معاناة المواطن السوداني باتت حالة مريحة لمن يتخذ القرار، لا تُحرّكه واجبات ولا تستوقفه ذمّة.
إذا تحدثنا عن الجواز السوداني نفسه فهو لم يعُد يحمل صفة الوثيقة التي تفتح أبواب السفر، بل تحوّل إلى ورقة تثبّت إذلالًا ممنهجًا يُستخرج بعد مشقة، ويُثقل بكلفة مالية تفوق قدرة غالبية المواطنين، بينما تتسلّل نُسخ أخرى منه إلى أيدي من يدفعون في المكاتب الخلفية، في مشهد يختزل انهيار منظومة كاملة، لم يعد الإجراء يمثل ضمانًا للكرامة أو للحماية، بل صار عبئًا ثقيلًا يرفد آلة سلطة قررت أن تتاجر بهوية الناس، وتحوّل مؤسسات الدولة إلى صناديق جباية لا تجيب ولا تُحاسب.
في مراكز الغسيل الكلوي يموت الناس ببطء، لا لأن المرض قاتل بطبعه، بل لأن منظومة الرعاية الصحية تفككت بفعل الإهمال المتعمد، ونقص التمويل، وغياب الضمير، وماكينات لا تعمل، أدوية مفقودة، كهرباء غير مستقرة، وأطباء يكابدون من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما المرضى يُختصر لهم الزمن، وتُقلَّص الجلسات، ويُخيَّرون بين ألم الغسيل الكامل أو التسمم التدريجي، لا وجود لمراكز متخصصة للأطفال، ولا نظام عدالة في توزيع الفرص الطبية، في بلد يُعامَل فيه المريض كرقم، ويُقرأ فيه نبضه من خلف حاجز البيروقراطية.
وسط هذا الانحدار، يقف المواطن دون تفسير. كل ما حوله يوحي بأن الدولة التي يُفترض أن تكون مأوى له قد اختارت أن تكون خصمه، وأن تتحوّل من سندٍ إلى عبء. حتى في بلاد الاغتراب، حيث يُنتظر من النظام أن يُراعي خصوصية المغتربين وظروفهم، تتواصل المعاناة: كلفة استخراج الجواز الواحد تلامس حاجز الـ 300 دولار، رقم يصعب تحمّله من مواطن عادي، فكيف إذا كانت الأسرة مكوّنة من أربعة أفراد؟ إنها ليست مجرد رسوم… إنها عقوبة جماعية تُمارَس بلا محاكمة.
أما الاقتصاد، فليس سوقًا تُنظّمها العدالة، بل حلبة تتحكم فيها شبكة الإسلامويين الذين فرضوا أنفسهم تجارًا وسماسرة في كل ما يدخل ويخرج من البلاد. السكر والدواء والقمح والوقود، كلها تمر عبر المعابر التي يحرسها المنتفعون، ويحركها الصامتون الذين يتعاملون مع المعاناة كفرصة للربح. كل من لا ينتمي إلى الشبكة يُقصى من السوق، ويُغلق له الميناء، ويُمنع من الاستيراد، ويُهدم له المصنع أو المتجر، وتُترك له البلاد إن أراد الخروج منها بشرط أن يدفع ثمن الهروب.
السلطة الأمنية ليست جهازًا لحفظ النظام، بل ذراع تُشهره الدولة في وجه الأحلام. كل من يكتب يُلاحق، وكل من يُغني يُراقب، وكل من يشكو يُصنّف. لم يعد الخوف طارئًا، بل صار مكوّنًا أساسيًا من الحياة اليومية، وصار المواطن يختار كلماته كما يختار طعامه، بحذر، وبحسابٍ لما قد يُرتّب عليه من استدعاء أو اختفاء أو تشهير.
في معسكرات النزوح، لا شيء يُشبه الحياة. لا ماء، لا طعام، لا حماية، لا دفء. آلاف العائلات تعيش في خيام لا تقي من البرد أو الحرّ، أطفال ينامون على الأرض، ونساء يُقسّمن الرغيف، وشيوخ ينتظرون القوافل التي لا تأتي إلا على فترات متباعدة، بعد أن تمرّ بسلسلة طويلة من الحواجز الرسمية وغير الرسمية. في زمزم وحدها، تُسجّل حالات مجاعة، ليس كحدث طارئ، بل كواقع دائم، وكأن هؤلاء البشر خارج نطاق الإنسانية.
حتى بورتسودان، المدينة التي اختارها الإسلامويون مقرًا للسلطة، صارت اليوم ساحة عذاب حراري لا يُطاق. درجات حرارة تتجاوز الخمسين، كهرباء تنقطع، ماء لا يُوجد إلا في صهاريج تباع على أبواب المستشفيات، وثلج يُسعّر بالعملة الصعبة. ضربات الشمس تحصد الأرواح، والمستشفيات تعمل بأدوات من زمنٍ مضى، بينما الناس يبحثون عن الظلّ فلا يجدون سوى وهم اللجان، ووعد الطوارئ، وبيانات تُمجّد الصبر وكأنّه حلٌ لكل شيء.
هذا هو السودان في غرفة العذاب، تحت سلطة لا ترى في الناس إلا أرقامًا يجب ضبطها، وأصواتًا يجب إسكاتها، وأحلامًا يجب دفنها قبل أن تُزهر، لكنه أيضًا بلد لا يزال يحلم، رغم كل شيء، بمن يكتب لأجله، ويشهد باسمه، ويُضيء له الطريق ولو بسطرٍ واحد، إن الإسلامويون الأشقياء لا يتذكرون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا ربه سبحانه وتعالى في الحديث:
”اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه”
المصدر: صحيفة التغيير