تصاعدت وتيرة التجويع التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة منذ أن عاد لاستئناف الحرب في 18 مارس/ آذار الماضي، من خلال إغلاق المعابر الحدودية ومنع إدخال شاحنات المساعدات واستبدالها بما بات يعرف بـ”نقاط الموت”. وباتت “هندسة التجويع” سلاحاً إسرائيلياً أساسياً إلى جانب الأسلحة التقليدية الأخرى المستخدمة في عمليات القصف الجوي والمدفعي، منذ بداية حرب الإبادة المتواصلة للشهر الواحد والعشرين على التوالي. وعزز الاحتلال هندسة التجويع في غزة عبر عدة مسارات انتهجها خلال الفترات الأولى للحرب، أو حتى بعد استئنافها، حيث عزز من السيطرة على المعابر الحدودية وسمح بحالة الفوضى ودشن عصابات مسلحة تتبع له، واستهدف المنظومة الأمنية التي تتولى عملية تأمين الشاحنات، ثم انتقل نحو استحداث “مؤسسة غزة الإنسانية” عبر نقاط الموت.

رغبة بإنهاك الفلسطينيين في غزة

ويتضح من وراء هذا السلوك الإسرائيلي الرغبة في إنهاك الفلسطينيين بأقصى درجات التجويع لتحقيق أهداف ذات طابع سياسي، وهو ما يظهر في السلوك الإسرائيلي خلال الفترة القليلة الماضية عبر استمرار التمسك بخيار تهجير الفلسطينيين. ومع فشل مشروع نقاط التوزيع التي تحوّلت بالنسبة للفلسطينيين إلى كمائن موت، فإنه حتى الاتفاقيات التي شهدتها الفترة الأخيرة للوصول إلى آلية لإيصال المساعدات إلى غزة فشلت هي الأخرى.

إسماعيل الثوابتة: الاحتلال يمنع إدخال المواد الغذائية والمياه والوقود في إطار فرض سياسة خنق شاملة

وأعلن الاتحاد الأوروبي، مطلع الأسبوع الماضي، عن اتفاق جرى إبرامه مع الاحتلال الإسرائيلي يقوم على زيادة كميات المساعدات بشكل كبير وتنظيم عمليات إصلاحات لبعض البنية التحتية وغيرها من الإجراءات. إلا أن هذا الاتفاق بقي حبراً على ورق ولم ينفذ منه أي شيء حتى هذه اللحظة، فيما اعتُبر فلسطينياً بأنه مراوغة من قبل الجانبين في ظل تزايد الضغوط الشعبية والتظاهرات في الدول الأوروبية المطالبة بوقف حرب الإبادة.

وقالت حركة حماس، أخيراً، إن المجاعة في قطاع غزة بلغت مستويات خطيرة، وعلى الدول العربية والإسلامية التحرك العاجل لكسر الحصار وإدخال المساعدات، حيث يوظف الاحتلال الفاشي الجوع والحرمان من المواد الأساسية للحياة في قطاع غزة، كإحدى أدوات الإبادة المتواصلة منذ أكثر من 21 شهراً، يمثّل إمعاناً في ارتكاب أبشع الجرائم في العصر الحديث، بحق الأطفال والمدنيين الأبرياء.

سلاح التجويع

وحذر مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، في حديث لـ”العربي الجديد”، من تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة في ظل استخدام الاحتلال الإسرائيلي لسياسة التجويع كسلاح رئيسي في حربه على السكان المدنيين، موضحاً أن هذه السياسة لم تعد مجرّد حصار بل تحوّلت إلى أداة إبادة جماعية بوسائل ممنهجة ومدروسة.

وأكد الثوابتة أن الاحتلال يمنع إدخال المواد الغذائية والمياه والوقود، ويقصف المنشآت الزراعية والصناعية ومخازن الأغذية، ويعرقل وصول المساعدات الإغاثية، ويستهدف مراكز توزيعها، في إطار فرض سياسة خنق شاملة. وأضاف أن الاحتلال يبتزّ السكان بربط إدخال المساعدات بقبول حلول سياسية أو أمنية تتماشى مع أطماعه، في عملية وصفها بأنها “جريمة حرب مكتملة الأركان”، معتبراً أن ما يميز سياسة التجويع الحالية أنها شاملة، ممنهجة، وممتدة زمنياً بشكل لم يشهده الفلسطينيون من قبل. واعتبر أن “المجتمع الدولي يشهد اليوم بصمت مخزٍ عملية تجويع جماعي من بين الأقسى في التاريخ الفلسطيني، تستهدف الإنسان في وجوده وكرامته، وسط غياب لأي تدخل فعّال لوقف هذا الانهيار الإنساني”. وتسببت حالة التجويع في استشهاد 70 طفلاً ورضيعاً منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة جراء عمليات التجويع وسوء التغذية التي تضرب الفلسطينيين ومنع الاحتلال إدخال الأغذية والمكملات الغذائية وحليب الأطفال.

سياسة مركزية

من جهته، قال المدير العام لشبكة المنظمات الأهلية في غزة أمجد الشوا، إن الاحتلال الإسرائيلي ينتهج سياسة تجويع ممنهجة تهدف إلى ترك أثر بالغ على صحة وحياة السكان، وتكريس حالة الفوضى في المجتمع الفلسطيني، وصولاً إلى تنفيذ هدفه الاستراتيجي المتمثل في إفراغ قطاع غزة وفرض التهجير القسري على أبناء الشعب الفلسطيني.

أمجد الشوا: الاحتلال مارس، منذ بداية العدوان، هندسة متعمدة للتجويع

وأضاف الشوا، لـ”العربي الجديد”، أن الاحتلال يستخدم الجوع كسلاح مركزي ضمن أدوات الحرب، مشيراً إلى أن سوء التغذية يترك آثاراً خطيرة على الأطفال بشكل خاص، وعلى الأجنّة في بطون أمهاتهم، وكذلك على الرضّع، مما سيُحدث أضراراً صحية بعيدة المدى في البنية السكانية. وأشار إلى أن الاحتلال مارس، منذ بداية العدوان، هندسة متعمدة للتجويع عبر استهداف مباشر لمصادر الغذاء، من مزارع ومصانع وقطاع الصيد، بالإضافة إلى تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية، ما أدى إلى انهيار كامل لمنظومة الأمن الغذائي، ودفع السكان إلى الاعتماد شبه الكامل على المساعدات الإغاثية. وبحسب مدير عام شبكة المنظمات الأهلية، “لم يكتفِ الاحتلال بمنع المساعدات، بل قام باستهداف مراكز توزيعها، والتكيات، والمخازن، وصولاً إلى فرض حصار خانق، خاصة منذ الثاني من مارس الماضي، حيث تم منع دخول المساعدات بشكل كامل تقريباً، أو السماح بدخولها بتقطير لا يلبي الحد الأدنى من الاحتياجات”.

واقع مأساوي

ميدانياً، يبدو واقع أكثر من مليوني نسمة يعيشون ظروف المجاعة قاسياً وصعباً نظراً لحالة التجويع الشديدة التي تضرب القطاع، حيث بات الكثير من السكان يقضون أياماً بدون تناول وجبات طعام مشبعة. وبات الآلاف من الفلسطينيين يصلون إلى مستشفيات القطاع المختلفة أو المراكز الطبية الميدانية في حالة من الإعياء الشديد نتيجة لعدم تناول وجبات طعام لفترات طويلة وعدم وجود أي مكملات غذائية بديلة.

ووصف الشاب الفلسطيني فادي المجبر ظروف المجاعة بأنها الأصعب والأقسى على الفلسطينيين مقارنة بالمجاعة الأولى التي شهدها القطاع خلال فترة حصار مدينة غزة وشمالي القطاع عام 2024، حيث لم يصل القطاع لهذه المرحلة. وقال المجبر، لـ”العربي الجديد”: “أسوأ شعور يتملكني حالياً هو أنني عاجز عن توفير الخبز والطعام لطفلتي التي تطالبني يومياً به… وين العالم وين العرب وين المسلمين، نحن لا نقتل بالقصف وإنما بالجوع أيضاً”.
أما المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني في غزة محمود بصل، فذكر أن الناس لا تموت من وطأة القصف فقط، بل تحت وطأة الجوع، في إشارة إلى الواقع الصعب الذي وصلت إليه أحوال الناس جراء عدم توفر الطعام. وأضاف، بصل في تصريح عممه على وسائل الإعلام، أن “الأطفال ينامون جوعى والمخابز مغلقة والبطون خاوية والأسواق فارغة”، مشدداً على أن المجاعة ليست كارثة بل عقوبة جماعية مفروضة على شعب بأكمله.

العربي الجديد

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.