عبدالماجد سعيد عرمان
ليست اللغة عبارة عن أداة للتخاطب، بل هي مرآة الوعي ووعاء الفكر. ومن بين أكثر مفرداتها أثرًا في تشكيل وجدان المجتمع تأتي الألقاب؛ فهي ليست كلمات عابرة، بل رموز تختزن سلطات خفيّة، قادرة على رفع إنسان أو طمسه، على تقييد طموحه أو تحرير صوته. في المجتمع السوداني، كما في مجتمعات أخرى، تتحول الألقاب إلى أقدار اجتماعية تُلصَق بالأفراد حتى تكاد تحدّد مسار حياتهم. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر فيها بوعي فلسفي وتأمّل نقدي، يكشف كيف يمكن للكلمة أن تكون جسرًا للكرامة أو سجنًا للروح.
في قرى الجزيرة، حيث يلتقي النيل بالزمن، وتتناثر الحكايات بين جدران الطين وأسواق القرى والمدن، الألقاب تتطاير مثل أوراق الخريف. للوهلة الأولى، تبدو بريئة، لكنها أقنعة تلتصق بالوجوه وتثقل الروح، تحاصر الإنسان في زاوية واحدة من وجوده، فتصنع له قدرًا قبل أن يصنعه هو بنفسه.
يُنادى الرجل بلقب “الفقير”، فيحمل اسمه عبء العوز، حتى لو كانت قلبه أغنى الناس. وتُوصف المرأة بـ“أم ضراع”، لمجرّد أنها أخذت حقها بيدها ووقفت أمام الرجال الكبار؛ وكأن المجتمع يريد أن يفرض عليها شكلًا من الطاعة الصامتة. هنا، اللقب يصبح سجنًا للكلمة وللمشاعر، إذ يُختزل حضورها في صلابةٍ مقصودة، بينما يُمحى ما فيها من رحمة وعذوبة وتناقضات بشرية. وهكذا تتحول الألقاب إلى وصمات داخلية يصدقها أصحابها ويعيشون وفقها.
في الأسواق، حين يسمع الناس لقبًا يتكرر على لسان الجيران أو الباعة، يظل يتردد في ذاكرة الجماعة، فتلتصق الكلمات بالإنسان، وتصبح جزءًا من وعيه الباطني. “الكسلان” يصبح فعلًا متثاقلًا عن المحاولة، و“البسيط” يقتنع أنه لا يستحق أكثر من موقعه الحالي. اللقب إذن يقيد الذات ويحولها إلى ظلّ ضيّق من إمكاناتها.
وبين الأزقة وأبواب البيوت، تتجلى الفوارق الطبقية والقبلية. لقب “ود أصول” أو “الهاشمي” يمنح صاحبه قداسة وامتيازًا، بينما ألقاب مثل “قرض” أو “دقرام” تضع أصحابها في هامش الحياة، مهما بلغت كفاءتهم. اللغة هنا أداة للسلطة، تُعيد رسم الحدود وتتحكم بالوعي الجمعي، كما لو أن الكلمات نفسها تزرع مكانتها في النفوس قبل أن تُعبر عن الواقع.
وليس المجتمع السوداني بدعًا في هذا؛ فالتاريخ العربي مليء بشواهد على كيفيّة تحوّل اللقب إلى أداة للمدح أو الذم. فـ“الحجّاج بن يوسف” ظلّ مثقلاً بلقب “سفّاك الدماء”، حتى غطّى ذلك على علمه وبلاغته. و“المتنبي” لم ينجُ من لقب “مدّاح السلاطين”، رغم أنّ شعره كان ثورة على حدود اللغة والخيال.لقبٌ واحد قادر أن يخلّد أو أن يطمس.
الفيتوري، شاعر القارة السوداء، اختصر المأساة حين كتب:
لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينالن تعرفنا
ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفناأدنى ما فينا قد يعلونا
فالألقاب ليست الحقيقة، بل انعكاس لرؤية الآخرين لنا. ومن يرضخ لها يتيه في مرآة زائفة. لكن حين نكسر هذا القيد ونجذب الآخر إلى جوهرنا، تتلاشى الألقاب، وتتكشف الذات بما هي عليه، لا بما يُلصَق بها.
إنّ الألقاب، في جوهرها، مرايا محدودة الرؤية: تعكس جانبًا واحدًا من الإنسان وتُقصي بقيته. هي أشبه بكمامة فكرية، تمنع المجتمع من رؤية التعدّد داخل الفرد، وتمنع الفرد من رؤية اتساعه الداخلي. غير أنّ الوجه الآخر لهذه الظاهرة يكشف أنّ بعض الألقاب ليست سجونًا بل جسورًا. فحين يُلقّب أحدهم بـ“العالم”، أو “المحسن”، فإنّ الكلمة هنا تتحوّل إلى اعتراف بالفضل، وإلى سندٍ معنوي يثبّت قيمته في الذاكرة الجماعية.
يبقى السؤال: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذه المكائد اللغوية؟
ربما يجيبنا التاريخ والواقع معًا: نعم، حين نعرف أنّ قيمة الإنسان لا تُقاس بما يُلصق به، بل بما يفعله هو من صدق وإبداع. النيل لا يتوقف عن الجريان لأن الناس سمّوه “النهر”، والنجوم لا تفقد ضوءها إذا وصفتها القصائد بـ“الخافتة”. الإنسان كذلك، أكبر من أي لقب، وأوسع من أي كلمة.
وهنا، في جوهر الإنسان، تكمن الحرية: أن يعي ذاته خارج حدود ما يُلصق به، أن يختار قيمته وفعلَه وأسلوب حياته، لا أن يرضخ لأقنعة الألقاب. الألقاب، مهما بدت قوية، ليست إلا ظلالًا على جدار الكينونة. من يستسلم لها يعيش أسيرًا لسجن الكلمات، ومن يتجاوزها يكتشف حريته الداخلية، حيث لا يُعرّف إلا بما يختاره لنفسه من معنى.
إنها معركة الروح مع اللغة، والوعي هو المفتاح الذي يفتح الأبواب المغلقة.
المصدر: صحيفة الراكوبة