
ذات مرة، قالت جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيونى سابقا: «إن إضعاف الدول العربية الرئيسية واستنزاف طاقاتها وقدراتها واجب وضرورة؛ من أجل تعظيم قوة إسرائيل، فى إطار المواجهة مع أعدائها، وهذا يحتم علينا استخدام الحديد والنار تارة والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى». يفضح هذا التصريح سعى تل أبيب لتفجير أوضاع بلدان عربية من الداخل؛ باستغلال الثغرات فى البنية الاجتماعية، والمثال الساطع هنا العراق والسودان.
كان ذلك قبل زمن طويل، نجحت إسرائيل فى تمزيق السودان إلى دولتين، ولا تزال تعمل على تفتيتهوغيره لعدة دويلات؛ بالنظر إلى أنه العمق الاستراتيجى لمصر؛ تجلى هذا عقب عدوان 1967، سواء فى مؤتمر «اللاءات الثلاث» بالخرطوم التى أصبحت قاعدة لتدريب وإيواء وحدات من القوات الجوية والبرية المصرية، وبالتالى يظل تقسيم السودان هدفا أساسيا للدولة العبرية، عن طريق إشعال الحروب الأهلية؛ لمحاصرة مصر ومد النفوذ الصهيو أمريكى إلى منابع النيل، وزعزعة الأمن القومى العربى كله.
يكشف آفى ديختر وزير الأمن الإسرائيلى السابق عن قيام المخابرات الإسرائيلية بتصعيد الصراع فى دارفور؛ لدفع الأوضاع نحو التأزم والانقسام، لافتا إلى أن الصراعات الحالية فى السودان ستنتهى عاجلا أو آجلا بتقسيمه إلى عدة كيانات، على حد وصف ديختر الذى عرض تقديرات إسرائيلية وخططا لإثارة الفتن والتقسيم فى لبنان وسوريا، مرورا بالعراق وإيران، وصولا إلى السودان وليبيا والجزائر والسعودية، ومصر (الجائزة الكبرى).
إن إسرائيل الحاضر الخفى فى المشهد السودانى منذ نجحت مع إثيوبيا وآخرين فى فصل جنوب السودان عن شماله، وأوقفت العمل فى قناة جونجلى التى كانت ستوفر مليارات الأمتار المكعبة من المياه للسودان ومصر، بدلا من ضياعها فى البخر والمستنقعات، وها هى تؤجج مع آخرين الحرب فى السودان لتمزيقه، تنفيذا لنظرية الأكاديمى الصهيونى إدوارد لوتواك «امنحوا الحرب فرصة»، بإثارة النعرات الإثنية، فمع نشوب الحرب الحالية تجددت مجازر ميليشيا الدعم السريع ضد القبائل الإفريقية، فى دارفور، وعندما مالت كفة الانتصار لمصلحة الجيش، واستطاع تحرير أغلب أحياء الخرطوم، وبدا أنه قادر على حسم المعركة، تعالت أصوات إسرائيلية تتهم السودان بالتعاون مع إيران، وتنادى بالتدخل المباشر، لأن الجيش السودانى أصبح «حماس إفريقيا»!.
وبعد سيطرة ميليشيا الدعم السريع على دارفور بالقوة، وفتح خطوط إمداد عبر ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وإثيوبيا، أعلنت الميليشيا نيتها تكوين حكومة فى الإقليم وبعض أجزاء جنوب كردفان، بعد تحالفها مع حركة عبدالعزيز الحلو، فى محاولة لاستنساخ النموذج الليبى، فتكون هناك حكومتان، واحدة شرعية وأخرى حكومة أمر واقع، وخطورة هذا السيناريو أنه يبقى على حالة اللاسلم واللاحرب فى البلاد؛ مما يؤثر فى تماسك المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وينتهى إلى الإنهاك الشامل للقوى الوطنية. ولو نجحت الميليشيا فى تثبيت سلطتها ووجودها الميدانى لفترة طويلة؛ ستصبح بيدقا لإسرائيل والقوى الأخرى التى تسعى لفصل دارفور، وهى قوى معلومة ومخططاتها منشورة، ما يمهد لانقسامات جديدة متتالية فى السودان، قبل أن تعبر الحدود!.
فى الخامس من الشهر الحالى، نشرت ناتاليا كوادروس، الباحثة الإسرائيلية فى الشئون الإفريقية مقالا فى «جيروزاليم بوست» دعت فيه إلى إزالة البرهان من السلطة بالسودان، وزعمت أنه يتحالف مع إيران والإخوان ما يحوّل بلاده إلى جبهة جديدة ضد إسرائيل. أما القوى الكبرى فهى تراقب السودان كمن يراقب نارا تقترب من مخزن بارود، وهى لا تريد إشعالها، لكنها لا تثق بمن يطفئها. الخطر الحقيقى أن يستمر السودان فى الانهيار؛ حتى يصبح فضاء مفتوحا لكل من يريد استخدامه ضد الآخرين، فى حروب بالوكالة، وتصير الحرب فى السودان مثل دوامة، كل من يقترب منها ينجر إليها حتى لو جاء ليتفرج فقط!. بالطبع، لم تبدأ المأساة اليوم، بل خرجت من رحم تنظيم الحركة الإسلامية ونظام الإنقاذ الإخوانى بقيادة الترابي البشير، الذى اغتصب الدولة، وحوّل مؤسساتها أدوات حزبية، وفتح أبوابها للمليشيات والمرتزقة المضاربين فى دماء السودانيين، ومن بينهم «حميدتى»؛ فالطغاة يجلبون الخراب والغزاة.
السودان، اليوم، فى أمس الحاجة إلى استعادة دولته قبل أن يصبح ساحة لتصفية حسابات الآخرين. ووفقا لتوازنات القوى، تحتاج القيادة السودانية إلى إعادة تكييف علاقاتها الخارجية بما يضمن محاصرة المخططات الآثمة ووأدها، قبل أن تواصل تدمير مقدرات البلاد. وعلى العرب أن يفعلوا شيئا غير إبداء الأسف وتجاهل الأخطار؛ ألا ينسوا أن الثور الأبيض أكل يوم أكل الثور الأسود؛ من ثم فاتحاد المواقف العربية لصدّ التغلغل الإسرائيلى بإفريقيا، ومنع تفتت السودان ضمانة لعالم عربى قوي؛ يجب كفالة عدم الاعتراف بأى حكومة موازية بالسودان، والعمل على إنهاء الخلافات الإفريقية العربية، والانتباه لتمايز الأعراق واختلاف الأديان فى مجتمعاتهم، ومساعدة الأفارقة الذين يعانون الفقر فى ظل صراعات لا تهدأ، تستغلها إسرائيل للنفاذ إلى العمق الإفريقى، وتأجيج الحروب فيه لتبقى الدول فى حاجة لمساعدتها. إن السودان على مفترق طرق، والمحافظة على وحدته تتطلب المزيد من الحكمة، وتوظيف عناصر القوة المادية والمعنوية، علما بأن الحرب لن تظل داخل حدود السودان، بدأت الدماء المراقة «تطرطش» فى كل الاتجاهات، وأى محاولة لتجنب الانجرار إلى الصراع ستفشل ما لم يرفع المخربون أيديهم عن الشعب السودانى وثرواته؛ وتتوقف الأصابع الخفية عن العبث الدامي؛ فكثرة الطهاة تفسد الطبخة!.
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير