د. محمد حمد مفرح
إن المتأمل في الأزمة السودانية الحالية المتمثلة في الحرب و إفرازاتها السياسية و الاقتصادية و الإجتماعية، سيقف حتما على حقيقة أن هذه الأزمة تمثل، في التحليل النهائي، وجه من وجوه الصراع على السلطة، ظل السودان بسببه مقعدا (حضاريا) منذ فجر الاستقلال حتى يومنا الحاضر. و تبعا لذلك فان لهذه الأزمة جذورها التاريخية من جهة أنها برزت إلى سطح الواقع السياسي منذ استقلال البلاد، و ظلت آخذة في التعقيد بصورة متصاعدة بسبب سياسات الحكومات العسكرية التي حكمت البلاد لسنوات طويلة، مقارنة بفترات الحكم الديموقراطي القصيرة. و قد تسببت الانقلابات العسكرية Military coups التي جرت بالسودان، في فترات مختلفة، في عدم نضج التجربة الديموقراطية جراء قطع هذه الانقلابات الطريق على الديموقراطية و الحيلولة دون تطورها الطبيعي. كذلك فقد تأثرت الديموقراطية سلبا بالسلبيات ذاتية المنشأ التي تسم الأحزاب السودانية، كما كان للبعد الخارجي دوره في الحيلولة دون توطين و ترسيخ الديموقراطية.
و تتمثل الأزمة التاريخية آنفة الذكر، بصورة عامة، في القبضة المركزية التي استحوذ من خلالها المركز على القرار الوطني، و عمل على تكريس التهميش في بعض أجزاء السودان مع ترسيخه لواقع التنمية غير المتوازنة و التي أدت لخلق فوارق تنموية كبيرة. و قد قادت هذه السياسة المجحفة بدورها إلى خلق ظلامات تاريخية Historical grievances أدت إلى اندلاع الحرب في الجنوب، و الذي تعرض لظلم تاريخي فيما يلي التنمية و المشاركة في الثروة و السلطة. و قد استمرت حرب الجنوب لسنوات طوال و كانت كلفتها جد عالية من جهة فقدان البلاد ملايين الأنفس مع استنزاف موارد البلاد و القضاء على مقدراتها.
و قد تجلى تنامي هذه الأزمة بصورة غير مسبوقة خلال فترة الانقاذ التي تسببت من خلال سياسات حكومتها الراديكالية في فصل الجنوب، مع خلق بؤر صراع في كل من دار فور و جنوب كردفان و جنوب النيل الأزرق. و قد أفرز هذا الوضع واقعا تراجعت بسببه البلاد كثيرا، كما ظل يهدد وحدتها و بقاءها. و قد زاد الأمر ضغثا على إبالة عقب الانقلاب على ثورة ديسمبر التي كان من المؤمل أن تمهد طريق التحول الديموقراطي الحقيقي أمام البلاد، لكنها وئدت بسبب الانقلاب على الثورة من قبل العسكر. و قد تمظهر ذلك عبر الحرب الحالية التي تمثل ذروة الأزمة.
و بذا فقد لعبت سياسات الحكومات العسكرية و بالذات حكومة الانقاذ دورا محوريا Axial role في تعقيد الأزمة و ذلك على نحو أقعد البلاد و شكل مهددا وجوديا للدولة السودانية. و قد قادت هذه السياسات، بمرور الزمن، إلى الواقع السوداني الحالي المأزوم. و من المفارقات المؤسية أن هناك قوى سياسية لا تعترف بالتأثبر السالب لهذه السباسات، ما يضاعف من تعقيد الأزمة.
و بهذه المناسبة أذكر أنني قرأت كتابا قبل حكم الانقاذ بسنوات، بعنوان:
Africa In the 1980s
(A Continent In Crisis)
أي:
أفريقيا في الثمانينيات
(قارة مأزومة)
مثير للجدل من حيث عبقرية تحليله. و قد عمل هذا الكتاب الذي أعده مجموعة من جهابذة المحلليين الغربيين على تحليل الواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي للدول الإفريقبة من خلال منهج تحليلي بني على معطيات الواقع بهذه الدول مع اللجوء للاستقراء و التنبؤات Forecasts التي تعين على التنبؤ بمآلات الأوضاع بالدول الإفريقية.
و فيما يخص السودان فقد ذهب المحللون، فيما يشبه النبوءة، إلى القول پأن الجبهة الاسلامية من المتوقع أن تحكم السودان. و قد مضوا في قولهم أنه في حالة تحقق هذا الأمر فان الجنوب مرشح للانفصال!!!.
و قد استوقفني، حد الدهشة، هذا التحليل البارع الحري بالتأمل.
صفوة القول أن أزمة السودان ظلت آخذة في التعقيد بصورة ظل يعكسها واقع الحرب الجارية و التي وضعت البلاد على المحك و جعلت السودان منفتح على أسوأ السيناريوهات.
بقي أن أقول أن القوى السياسية Political Forces لم تستطع حتى تاريخه لعب الدور المرجو منها لوقف الحرب واستعادة التحول الديموقراطي. و في اعتقادي أن هذا الأمر يعزى إلى أن هذه القوى، و رغم عراقة بعضها و دورها المشهود في البناء السياسي و محاولات توطين الديموقراطية، مأزومة بنيويا، حيث تعاني من علل تنظيمية و إعلامية و مالية و خلافها، وثيقة الصلة بالتربية السودانية و عدم النضج السياسي و غيرهما من السمات السلبية للشخصية السودانية.
لذا فان الواقعية السياسية و الأمانة تحتمان علينا الاقرار بأن هذه الأحزاب تعاني من تراكمات فشل مزمنة لم تتمكن بسببها من اجتراح حلول ناجعة و مستدامة للحرب و من ثم استعادة المسار الديموقراطي Democratic track.
و مما يجدر ذكره أن هذه الاختلالات قد عبرت عن نفسها خلال هذه الحرب، فبرزت إلى السطح. و تبعا لذلك فقد شهدت الأحزاب انقسامات حادة و تشرذم و صراعات داخلية تحتاج إلى علاج ناجع يضع حدا لها حتى تتوحد هذه الأحزاب داخليا و تعمل على تبني خط سياسي واحد من أجل الاسهام في تفكيك الأزمة الماثلة.
لذا فان هنالك حاجة، في اطار اعمال النقد الذاتي، لوقفة مع الذات من قبل الأحزاب، اليوم قبل الغد، من أجل اصلاح واقع حالها، كي تتمكن من مواجهة أزمة الوطن المتطاولة و تسهم في حلها قبل فوات الأوان. و برغم واقعها هذا فان هذه الأحزاب تتكيء على ارث سياسي يمكنها من خلاله القيام باختراق ايجابي كبير و لعب دور فاعل على صعيد حل الأزمة، إذا ما شمرت عن سواعد الجد و استدعت هذا الإرث.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة