
في ظل الحرب المستعرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يتساقط النشطاء المدنيون والعاملون في المجال الإنساني بين مطرقة التخوين وسندان القمع، هؤلاء، الذين حاولوا أن يظلوا خارج استقطابات السلاح والسياسة، أصبحوا أكثر الفئات استهدافًا، وكأن الحياد نفسه أصبح تهمة.
التغيير ــ الخرطوم
ويكشف الواقع الميداني عن نمط متكرر للانتهاكات، حيث لا يُستثنى من بطش الأطراف المتحاربة إلا من اختار الاصطفاف الكامل، أما من اختار أن يكون مستقلًا، وأن يعمل على تخفيف معاناة الناس أو توثيق الانتهاكات، فقد صار هدفًا مشروعًا للاعتقال أو الاغتيال أو الإخفاء القسري.
«إيواء» .. العمل الإنساني مقابل الإعدام
الناشطة إيواء محمد عبد الرحمن التي أصبحت رمزًا لحملة القمع ضد العمل المدني المستقل في السودان، عُرفت بدورها الحيوي في تنسيق جهود الإغاثة في المناطق المتضررة من النزاع، وكانت في مقدمة من تطوعوا لإيصال المساعدات للنازحين في أطراف الخرطوم، بعيدًا عن أي انتماء سياسي أو عسكري.
رغم هذا، أُلقي القبض عليها وأُخضعت لمحاكمة عسكرية أصدرت حكمًا بالإعدام، بتهمة “التعاون مع العدو”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
و لم تُكشف تفاصيل المحاكمة للرأي العام، وسط شكوك قوية بأن التهمة سياسية الطابع، وتهدف إلى ترهيب كل من يخرج عن سيطرة المؤسسات العسكرية.
إيواء لم تكن ناشطة سياسية، بل إن نشاطها كان إنسانيًا صرفًا، لكن في مناخ الحرب، أصبح أي جهد مستقل يُنظر إليه كتهديد محتمل، وهو ما جعلها تدفع ثمنًا باهظًا على مجرد تقديم العون للمدنيين.
عبادة حسن: شهادة مقابل اعتقال
الصدمة الأكبر جاءت من اعتقال عبادة حسن، أحد أبناء منطقة المزاد بالخرطوم بحري، والذي خدم سابقًا في صفوف الجيش السوداني. عبادة خرج في بث مباشر تحدث فيه عن قضية إيواء محمد عبد الرحمن، واصفًا الحكم الصادر بحقها بأنه “ظالم وجائر”، ومؤكدًا على براءتها من التهم الموجهة إليها.
لم يمضِ وقت طويل حتى تم اعتقاله، ليختفي بعدها دون أن يُعرف مكان احتجازه، أو يُسمح لأسرته أو محاميه بالتواصل معه. مصيره لا يزال مجهولًا، وسط مخاوف متزايدة من تعرضه للتعذيب أو التصفية داخل أحد المعتقلات.
ما يثير القلق في حالة عبادة أنه لم يكن ناشطًا معارضًا أو مدنيًا تقليديًا، بل جنديًا سابقًا قاتل ضمن القوات النظامية. ومع ذلك، لم يشفع له ذلك حين اختار أن يتحدث علنًا، ويدافع عن زميلة يعتقد أنها تتعرض للظلم. حملات التضامن معه اتسعت، ورفعت شعارًا جديدًا أصبح متداولًا بين النشطاء: “الحرية لعبادة، والبراءة لإيواء”.
خالد الزبير «إستي»
أعلنت لجان مقاومة الفتيحاب قبل أيام استشهاد الناشط الثوري خالد الزبير، المعروف بلقب “إستي”، داخل أحد معتقلات الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش السوداني.
إستي، أحد مؤسسي غرفة طوارئ أم درمان جنوب، كان حاضرًا في كل مشهد ثوري، ثابتًا في مواقفه، ومبادرًا في دعم المتضررين والنازحين.
لجان المقاومة اتهمت السلطات باغتياله داخل المعتقل، واعتبرت ما جرى “جريمة تضاف إلى سجل القمع”، مؤكدة أن استي ظل متمسكًا بمبادئ الثورة، وأن دماءه لن تذهب هدرًا. موجة الغضب التي أعقبت نبأ وفاته غمرت المنصات، حيث تداول النشطاء صوره ومقاطع له من التظاهرات، مطالبين بكشف ملابسات اعتقاله وتعذيبه.
اغتيال استي لا يُقرأ إلا ضمن سياق أوسع من الاستهداف الممنهج للكوادر الثورية غير المنخرطة في الحرب، التي تمثل خطرًا على الطرفين فقط لأنها تفضح ممارساتهما وتقف بجانب الناس.
علي مهدي
في مناطق سيطرة الدعم السريع، يتكرر المشهد ذاته. الناشط علي مهدي، أحد أبرز الوجوه في العمل الطوعي بأحياء دار السلام، بأم درمان، أطلق قبل اختفائه بفترة قصيرة حملة بعنوان “سلام دار السلام”، ركزت على توفير الغذاء والدواء للنازحين الجدد.
دعا حينها إبان سيطرة الدعم السريع السيطرة على المنطقة، إلى أن تبقى الإغاثة بعيدة عن أي حسابات سياسية، مؤكدًا أن الكارثة تطال الجميع.
وبعد ظهوره العلني في مقطع مصور وقتذاك تحدث فيه عن رفضه لتسييس المساعدات، اختفى دون أثر.
بعد أيام، عُثر على جثمانه في منطقة نائية، وعليه آثار تعذيب واضحة، ما يرجح أنه تعرّض لاستجواب قاسٍ قبل أن يُقتل.
مقتل علي مهدي أحدث صدمة في أوساط النشطاء والعاملين في الإغاثة، وطرح تساؤلات حادة حول مدى تقبل الأطراف المسلحة لوجود مبادرات مدنية لا تخضع لها.
علي لم يكن يحمل سلاحًا، ولم يدعم طرفًا ضد آخر، لكنه أراد فقط أن يعمل بشرف في ميدان لم يعُد يحتمل الشرفاء.
ثمن الحياد
يقول الناشط محمد عبدالرحمن لـ «التغيير»: لم يعد الحياد خيارًا آمنًا، فمن لا ينخرط في صفوف الحرب، يُنظر إليه بعين الشك والعداء من قبل الطرفين. وأضاف: النشطاء المستقلون، والعاملون في الإغاثة، والصحفيون، وحتى الجنود السابقون، أصبحوا جميعًا تحت مقصلة التهديد، لا لشيء سوى لأنهم رفضوا أن يكونوا جزءًا من آلة الحرب أو أن يصمتوا على ما يرونه ظلمًا.
المصدر: صحيفة التغيير