استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟ «3 7»
استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟ «3 7»
صديق الزيلعي
أرسل لي عدد من الزملاء والأصدقاء مقالا للدكتور احمد عثمان عمر بعنوان: “الخلاف بين قوى التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي”. وقصدوا من ارسال المقال انني من دعاة تحالف كل القوى المدنية الداعية لإيقاف الحرب، ويجب أن انتبه للخلاف مع قوى قحت. سأكتب مجموعة من المقالات في حوار مع المقال، ليس فحسب، بل ومع الخط السياسي الذي يتبناه المقال وعدد مقدر من الشيوعيين واليساريين.
تأتي أهمية ذلك من تحديات المرحلة المصيرية التي تمر بها بلادنا، التي تستدعي حوارا جادا وعقلانيا، بين كل قوى الثورة، في سبيل الوصول للرؤية المشتركة، التي تساعدنا في هزيمة مخطط من أشعلوا الحرب، والذين يريدون مواصلتها على أنقاض بلادنا، ومن اجل مواصلة واستكمال مهام الثورة. ستكون مساهمتي في الحوار سبع مقالات، يعالج كل منها واحدا من المواضيع التي وردت في مقال الدكتور أحمد. الهدف من ذلك هو تركيز النقاش، وطرح الرأي حول مسألة محددة.
لكن المقالات يجمع بينها خط واضح وتجانس، داخلي، في المحتوى وتواصل في نقد اطروحات دعاة التغيير الجذري، لان الدكتور أحمد عثمان هو أبرز منظريهم. تبدأ المجموعة بمقال عن قضية العدو الاستراتيجي، يعالج المقال الثاني قضية الشراكة، يتمحور المقال الثالث حول مفهوم الهبوط الناعم، المقال الرابع يعالج قضية الاقتصاد والموقف من البنك الدولي ومؤسساته، أما الموقف من الحل السياسي فهو موضوع المقال الخامس، المقال السادس سيناقش الموقف من الحرب، وستكون الخاتمة هي المقال الأخير.
وصف الدكتور أحمد عثمان عمر استراتيجية قحت بانها مشروع الهبوط الناعم. فقد شهدت السنوات الماضية استخدام تيار معروف، ينتمي لليسار، في الحركة السياسية السودانية كلمة الهبوط الناعم كدليل على الانتهازية السياسية، والركوع امام السلطة ليصبح جزءا منها، ويتم دمجه في النظام، وتبقي مؤسسات وأجهزة الحكم كما هي.
واصل الجذريون استخدام المصطلح بنفس تلك الصفات لوصم بعض القوى السياسية الأخرى، بالصفات اعلاه. فرغم ان الاستراتيجية كانت وليدة لحظة تاريخية معرفة، وفي إطار تصور مقصور لحل مشاكل السودان، آنذاك، وفي ظل توازن قوة محدد. الا، انني الاحظ، انها صارت تستخدم خارج سياقها التاريخي واطارها الزمني وأهدافها المعلنة.
فلنبدأ بقراءة ما كتبه الدكتور أحمد عثمان:
(ومفاد ما تقدم، هو ان هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري ومشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم).
نلاحظ هنا ان الدكتور أحمد وصف برنامج قحت بالإصلاحي، وذلك النعت، هو في جوهره، امتداد طبيعي، بل تكرار لنفس الطرح القديم، ما قبل ثورة ديسمبر المجيدة، الذي وصم القوى التي شاركت، بشكل أو آخر، في المفاوضات، بأنها ساعية للاندماج في نظام الاسلامويين، مع الإبقاء على كافة مؤسساته.
سأحاول عرض جوهر الاستراتيجية التي أطلق عليها الهبوط الناعم، وهي كانت سياسة محددة ومقترحة آنذاك، كحل لمشكلة السلطة في السودان. لعب السفير برينستون ليمان (وكان مبعوثا خاصا للإدارة الامريكية في السودان) دورا محوريا في صياغة الاستراتيجية. كتب برينستون في ورقة نشرها معهد السلام الأمريكي، حول المشروع، اقتطف منها بعض الفقرات:
(بعد عامين من فقدان السودان لربع عدد سكانه ومساحته، يظل البلد في أزمة كبيرة، لم يسفر انفصال الجنوب عام 2011 عن تسوية النزاعات طويلة الأمد في السودان. فمنذ ذلك الوقت يواجه الرئيس عمر البشير تمردا مسلحا يتزايد قوة، وانقسامات داخلية، ومحاولات للانقلاب عليه من قبل عناصر من الجيش. ولقد حان الوقت لان يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي وعملية إصلاحية تؤدي الى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة وديمقراطية وقادرة على السعي نحو مصالحة مجدية بين السودانيين)
ويمضي في عرضه:
(يتمثل السبب في الإخفاقات المستمرة لعمليات التفاوض التي أجريت في السودان في الماضي انها غالبا ما كانت تتضمن المتحاربين فقط، أي الحكومة والثوار المسلحين، ولضمان نجاح أي حوار وطني ينبغي اشراك أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني بطريقة جادة)
ويقول حول انتخابات 2015:
(لا ينبغي النظر الى انتخابات 2015 على انها نقطة النهاية الثابتة للعملية، كما لا ينبغي السماح للنظام باستخدامها لإضفاء الشرعية على حكمه عبر انتخابات يشوبها القصور كما كان الحال في انتخابات 2010 وبدلا من ذلك إذا كانت هناك عملية حوار حقيقية تحظى بمشاركة واسعة وزخم ينبغي التفكير في تأجيل الانتخابات لعامين على الأكثر).
ويختم برينستون ورقته بهذه الفقرة:
(إذا بدأت عملية الحوار الحقيقية فسيتطلب الامر من الأطراف المشاركة بشكل مباشر وكذلك الأطراف المراقبة التحلي بالصبر والتسامح للتعامل مع المد والجذر في العملية، وأخطر التهديدات هو محاولة النظام الحاكم استغلالها لأغراضه الخاصة أو احباطها كلية إذا بدأت تتخذ منحى غير مرغوب فيه وسيتطلب الأمر اعداد استراتيجيات للتعاطي مع كلا التهديدين. ومع ان فرص نجاح عملية الحوار والإصلاح الوطني الشامل قد تكون متواضعة فإنها تعد أفضل مسارات التقدم للأمام لدولة لا تجد امامها خيارات جيدة وبدون هذه العملية لن تسنح للسودان فرصة التغلب على دوامة عدم الاستقرار الهدامة.)
هذا تصور واضعي استراتيجية الهبوط الناعم، وهي كانت نتاج لاعتقاد المجتمع الدولي بعدم قدرة المعارضة على هزيمة النظام. كما كانت الأزمة الاقتصادية الخانقة، ومخاطر اندلاع حرب أهلية شاملة، ومن ثم انهيار الدولة السودانية مخاوف حقيقية للمجتمع الدولي. ومثل نجاح اتفاقية السلام الشامل في السودان، وتجربة جنوب افريقيا وبعض اقطار أمريكا الجنوبية دافعا للتفكير في المشروع. وبخبث الاسلامويين المعروف، فقد استغلوا الاستراتيجية لتحسين صورة النظام امام المجتمع الدولي، ونيل بعض المكاسب. فنظموا ما سمي بحوار الوثبة، وسمحوا للمشاركين بطرح آرائهم، واعداد توصيات جيدة، وضعها البشير في ادراجه، عندما سلمت له.
رغم عدم ثقة من صمموا المشروع في قدرات الشعب السوداني، الا انه كان محاولة جادة، افرغها النظام من أي محتوى. ولذلك يصبح، من غير المستحب، ان نستخدمها كسبة نوصم بها الخصوم السياسيين. وصارت مصطلحات كالهبوط الناعم والتسوية السياسية والحل السياسي، تستخدم في غير سياقها التاريخي والموضوعي، وتحولت لأداة لوصف الخصوم السياسية بالسعي للمصالح الذاتية، والتنكر لمصالح الجماهير الشعبية.
ورد في دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (أغسطس 1977)، عندما تم طرح المصالحة الوطنية بين نميري والأحزاب اليمينية، نقدا للطريقة التي تمت بها، وعن أهدافها ومراميها، ولكن لم يرفض مبدأ المصالحة كأسلوب للحل السياسي، ما يلي:
(ما يواجه شعبنا اليوم ليس مصالحة وطنية أو حوارا وطنيا لحل أزمة سياسية، وحماية وطن من أخطار تحيق به، تجارب الشعوب التي دفعتها ظروف الأزمات لأن تسلك طريق المصالحة الوطنية، تؤكد أن المصالحة تبدأ بتغيير أساسي في جهاز السلطة ودستورها وقوانينها. فتتوفر الحريات الديمقراطية الكاملة دون قيود للأحزاب السياسية وللنقابات والمنظمات الجماهيرية والصحف، ليدلي الشعب برأيه ويتقدم كل حزب واتجاه بما يرى من حلول، ويبتعد عن مواقع المسئولية الحكومية كل من أرتكب جرائم في حق الشعب والوطن وقاد الوضع السياسي للأزمة وحافة الانهيار، وتصفى المعتقلات والسجون، وتنشر حيثيات المحاكمات الجائرة تعاد للقضاء استقلاله ولحكم القانون سيادته، وتوضع قواعد ولوائح جديدة لانتخابات عامة، وتطرح للمناقشة والمراجعة أية معاهدات واتفاقيات خارجية مست سيادة الوطن واستقلاله. المصالحة الوطنية في العرف السياسي لتجارب الشعوب، تمثل فترة انتقالية للتصفية النهائية لأشكال الحكم التي قادت للأزمة، وتكوين أشكال جديدة يقننها دستور ديمقراطي تصون حقوق الجميع، ويجنب البلاد كوارث الصراعات الدموية والحروب الأهلية).
نواصل
الجذريون والوقوف عند محطة الشراكة «2 7»
المصدر: صحيفة التغيير